لصوص الصحة النفسية

Book-Cover

مُقدِّمة

احذر أن تُسرق منك صحتك النفسية، فبصراحة سمعة العصر الذي نعيش فيه حاليًّا ليست جيدة، قديمًا كان الناس يصابون بأمراض عن طريق البكتريا كالطاعون والكوليرا، أو عن طريق الفيروسات كالإنفلونزا الإسبانية، أما نحن فالأمراض المنتشرة عندنا لها علاقة بالخلايا العصبية، كالاكتئاب واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط ومتلازمة الإرهاق المزمن، فتشعر أن أمراض الماضي كانت فعلًا خطيرة وقادمة إلينا من الخارج، لكن أمراض عصرنا قادمة من داخل أنفسنا.

حتى إن فلاسفةً من هذا العصر، مثل (بيونج تشول هان | Byung-Chul Han) الفيلسوف الألماني الكوري، يسمي مجتمعنا بـ(مجتمع الاحتراق النفسي)!

ولكن تُرى لمَ وصلنا إلى هذه الحال؟ ومن الذي أحرق مجتمعنا وسرق منا صحتنا النفسية؟ وكيف؟ وماذا علينا أن نفعل؟

كل هذه التساؤلات سنجيب عنها في حلقة اليوم المبنية على كتاب (لصوص الصحة النفسية: أين ذهبت الطمأنينة والسوية النفسية؟) للاختصاصية النفسية التربوية نور النومان.

ترى من هم لصوص الصحة النفسية؟

فراغ الجهل الديني

هؤلاء اللصوص في الحقيقة ليسوا مجرد أشخاص، بل هم أيضًا أفكار وسلوكيات وظواهر في المجتمع، بدؤوا ينتشرون مع بداية ظاهرة الجهل الديني الهادم، وقد سببت هذه الظاهرة فراغًا عند الناس، فبدؤوا يملؤونه بطريقة خطأ أبعدتهم عن المصدر الحقيقي لمعرفة النفس وهو الوحي، وهذا جعل اللصوص يستغلون هذه الفرصة ويسرقون صحتنا دون أن نشعر.
ونحن اليوم سنقف مع كل لص على حدة ونعرف كيف نتعامل معه ونستعيد صحتنا، وننقذ الإنسان المعاصر الذي نجده كل يوم يذهب إلى عيادة نفسية مختلفة، ومراكز تأهيلية، ويمكن أن يصل إلى المصحات العقلية، وفي النهاية يأخذ أدوية نفسية تعالج أعراض الاكتئاب والتوتر والأرق دون أن تحل مشكلته الحقيقية.

فدعنا نكشف أول لص وننقذ أول ضحية وهي الشباب.

الشباب والتحدي الأول

إن كنت يا صديقي في سن الشباب الذي تكتشف فيه هواياتك ومهاراتك، فشخصيتك ما زالت تتكون وتتأثر بكل ما حولها، لذا يجب أن تحذر التحديات والمدخلات التي تتعرض لها:

- والتحدي الأول: 

مصدره استخدام الشاشات الإلكترونية إلى حد الإدمان، هل تعلم أنه توجد إحصائية تقول إن متوسط الوقت الذي يقضيه الشباب أمام الشاشات نحو ست ساعات ونصف يوميًّا؟
والاستخدام الكثير المفرط يقلل من مهاراتهم الحياتية والاجتماعية والتحصيل الدراسي، ويؤدي إلى اضطرابات في النوم وقلة النشاط.
وأغلب ما يضيع الشباب وقتهم عليه: (مواقع التواصل الاجتماعي، والأفلام، وألعاب الڤيديو).

- وإن تكلمنا عن لص مواقع التواصل الاجتماعي:
فهو يسرق صحتك النفسية بعدة طرائق، كأن يضعك في مجتمع يعرض حقائق مزيفة، والناس فيه يُخفون هوياتهم الحقيقية ويتبنون هوية افتراضية، مما يجعلك دائمًا تضع نفسك في مقارنات عبثية دون أن تشعر، وتحاول طوال الوقت أن تنال استحسان هذا المجتمع وتحصل على أكبر عدد من الإعجابات والمشاركات والتفاعلات.
بالإضافة إلى مشكلة أخرى وهي وجود كم كبير من المؤثرات والمعلومات التي تؤدي إلى الشتات المعرفي الذي يستهلك طاقتك ويضعف مهاراتك في التفكير الناقد، وأن تتحرى عن المعلومات وتستطيع أن تفرق بين الحقيقي منها والفرضيات والخيال.

-  أما لص الأفلام وألعاب الڤيديو
فهو ليس مجرد ترفيه مباح، فالأفلام ترسخ في ذهنك بعض المعاني التي يمكن أن تكون ضد فطرتك وتطبّعك بها، والمعاني التي فيها استهزاء بالمعتقدات، كما تجعلك تتعاطف مع الشر.
أما الألعاب الإلكترونية أو ألعاب الڤيديو فترسخ العنف، وبعض الألعاب جعلت شبابًا ينتحرون على أساس أنه تحدٍّ.

لذا يا صديقي تحتاج أن تحذر وتنتقي الأشياء التي تتعرض لها وتشاهدها، بالتأكيد الحل ليس في المنع التام، لكن راقب ما يدخل إليك من أفكار.

الشباب والتحدي الثاني

 - أما التحدي الثاني الذي يتعرض له الشباب، فهو الأساليب الخطأ في التربية:

- كأسلوب المقارنة رغم وجود فروق فردية بين الأفراد، سواء في القدرات أم الميول والإمكانيات.

- ووضع الأبناء في قالب معين، حتى إن لم يتناسب مع شخصياتهم ومواهبهم.

- ومن أخطر الأخطاء في التربية -وهو منتشر بسبب المناهج البعيدة كل البعد عن هويتنا المتأثرة بأفكار وفلسفات غريبة عنا- هو غياب مركزية الوحي، وفي المقابل تعزيز مركزية الإنسان وأنه مركز للوجود! 

- بالإضافة إلى عدم تعليم الأبناء فقه ترتيب الأولويات أصلًا.

**لذا إن كنت مُربيًّا، أو عندما تصبح أبًا أو تصبحين أمًّا، فماذا تفعل لتربي أبناءك وتحافظ على صحتهم النفسية في فترة الشباب؟
في العموم الهدف من التربية هو إعداد إنسان سوي للحياة، مكتسب للمهارات المتنوعة للتكيف مع التحديات، ولتحقيق هذا الهدف تحتاج أن:

- تبدأ بنفسك وتحاول إصلاحها وتزكيتها.

- وتغرس معاني الإيمان بالله وتوحيده في نفوس أبنائك.

- وتعرفهم الغاية من وجودهم.

- وكيف يحققون التوازن بين جوانب الحياة المختلفة ليفوزوا في الدنيا والآخرة.

- ولا تستخدم نبرة التعميم وتظن أن الشباب جميعًا متشابهون، وكلهم طائشون، وأبعد ما يكونون عن النضج، فهم على العكس عندهم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ ويحتاجون فقط إلى الإرشاد والنصح.

- وإن شعرت أنك لا تستطيع أن تتقرب من ابنك الشاب، توجد طرائق كثيرة يمكن أن تستخدمها:
*كأن تحاكي أسلوبه من دون سخرية واستهزاء.
*تقضي وقتًا أكثر معه، وتمنحه فرصة ليتكلم أكثر عن نفسه.
*تمنحه شعور التقدير والأهمية من دون مبالغة.

-  وإن احتجت إلى إرشادات سليمة أكثر عن التربية فستجد على تطبيق أخضر ملخصات كتب في قسم الأبوة والأمومة، حمل التطبيق واشترك في الباقة المميزة لتسمع بلا حدود في 15 دقيقة.

مخادعات الأفكار

هكذا نكون قد انتهينا من اللصوص الذين يسرقون الصحة النفسية لشبابنا، وبصراحة اللصوص الباقون ليسوا سهلين، لأنهم موجودون داخل عالم أفكارنا.
ولتفهمني أكثر دعني آخذك في رحلة إلى عقلك البشري، في البداية العقل يتفاعل مع الأحداث والمفاهيم التي يتعرض لها، وعلى أساسها يكتسب الميول والدوافع والاتجاهات التي تجعلك تتصرف بسلوك معين أو تصدر فعلًا معينًا.
وتوجد مقولة تراثية جميلة تلخص لنا كل هذا، هي: "مصدر الفعل في الفكر".

معنى هذا يا صديقي أنه لو كان في عقلك مجموعة أفكار مغلوطة، فستتصرف على أساسها وتتخذ قرارات غير سليمة، فما بالك إن كانت هذه الأفكار تسرق صحتك النفسية دون أن تنتبه؟!

وبما أن معظم هذه الأفكار انتشرت، فدعنا نتناول أهم اثنتين منها:
1. أول فكرة معنا هي "اقبلني كما أنا"
يمكن أن تشعر أن هذه الجملة شاعرية، وتدل على الحب الحقيقي الذي يعيش يا حبيبي، لكن إن ألقينا نظرة على الواقع فسنجد فكرة القبول غير المشروط موجودة، لكن في القصص الخيالية والأفلام، وهي تدمر علاقاتك الحقيقية مع الناس، لأنك بهذه الفكرة تفرض عليهم تقبل الإساءة، وتهمل احتياجاتهم.
*فلو كنت مُربيًا وتركت أولادك يتصرفون كما يريدون، وكانت تربيتهم بلا قيود أو شروط، فهكذا لن يكون عندهم انضباط ذاتي، ولن يهتموا بأي معايير سواء كانت دينية أم مجتمعية.

*أما في الزواج ففكرة القبول غير المشروط لا تزيد الحب بين الأزواج، على العكس؛ الحب يُبنى على سد الاحتياجات الفسيولوجية والمادية والفكرية والسلوكية والنفسية، وهذا يحتاج إلى مجهود وليس مجرد قبول. 

2. ثاني فكرة هي أن "كل علاقاتك سامة وفيها نرجسي":
فمثلًا إن نسي زوج أن يقول لزوجته "صباح الخير" اليوم، فهو نرجسي، وإن شُغِلَ صديق عن صديقه ورأى رسالته ولم يرد، يقول مباشرة إنه نرجسي، وأي شخص أخطأ في شيء من منطلق كونه بشرًا أو لم ينتبه لموقف أو تصرف ما، فهو بالتأكيد نرجسي.

وإذا سألت هؤلاء "ما معنى نرجسية أصلًا؟" فسيقولون لك: "لا أعرف ما هي النرجسية، لكنها سبب خراب كل شيء".
وفي الحقيقة إن أسقطنا معنى اضطراب النرجسية والأنانية والتكبر والإيذاء في العلاقات السابقة، فسنجد أنه ليس مطبقًا وفيه نوع كبير من المبالغة، بالإضافة إلى أن نسبة النرجسيين في دولة كالولايات المتحدة لا تتعدى 6%، وهذه النسبة تعد عالية بالنسبة إلى الدول الأخرى!
ستسألني "لمَ هذه المبالغة وهذا الانتشار؟"، فأجيبك بأن السبب يرجع إلى تبني عقلية الضحية بين الناس، وقد ساعد على انتشارها لصوص الصحة النفسية.

معالجون مزيفون

ستقول لي "وماذا يا أخضر لو تعرضت لمخادعات في الأفكار، أو شعرت بأن عندي مشكلة أرهقتني، وأن لصوصًا سرقوا مني صحتي النفسية؟ ماذا أفعل؟ أذهب إلى فلان المعالج النفسي بالطاقة النورانية والأشعة الكونية المتخصص في علم الأبراج الذي يعرف حظي اليوم؟"، سأقول لك لا يا صديقي، لأنك هكذا تذهب بقدميك إلى اللص الكبير الخطير من لصوص الصحة النفسية، بل يمكن أن نسمي أغلب مروجي خطاب التنمية البشرية بغير اتزان وإنصاف أو المعالجين المزيفين بمافيا الصحة النفسية.

هؤلاء يمكن أن نقول عنهم إنهم مشعوذون في لباس المتخصصين، وتدعمهم الإعلانات وبعض الشركات المستفيدة بسرقة صحتك النفسية، فلو ذهبت إلى معالج منهم بمشكلة فسترجع بمشكلات أخرى أكبر، وهذا لأنهم أنفسهم عندهم مشكلات..

1. أول مشكلة: أنهم منبهرون بالعلوم الغربية، ويأخذونها جملة واحدة، النافع منها والضار.
*فالغرب في علومه يعامل الإنسان على أنه جسد مادي، ليس عنده روح ولا يحتاج إلى وحي.
*وأنه حيوان ناطق، وما يسري على الحيوانات يسري عليه، ونستطيع أن نحل مشكلاته من التجارب على الحيوانات ونجعلها المرجعية، كما تقول مدرسة العلاج السلوكي.
*وتوجد مدارس أخرى تبني نظرياتها وتحليلاتها النفسية من الأساطير الإغريقية، كتحليلات فرويد المعتمدة على عقدة أوديب أو عقدة إلكترا.
طبعًا هذا لا يعني أن نرمي كل علومه، لا يا صديقي، نحن نأخذ العلم التجريبي الصحيح المتناسب مع عقيدتنا.

2. المشكلة الثانية: غياب فهم قيمة الإنسان وغاية وجوده، وأن الدنيا دار ابتلاء وليست دار جزاء، والإيمان بالقضاء والقدر، لذا فالمعالجون المزيفون يسدون هذا الفراغ الروحي ويستعينون بمصادر روحية أخرى من الديانات الشرقية الوثنية، التي يقول عنها بعض الباحثين إنه يوجد تشابه بين طقوسها وبعض الطقوس المستخدمة في السحر.

 

ولكن هؤلاء المعالجين يا أخضر مشهورون جدًّا، ويأتي إليهم أشخاص كثيرون، وعندهم أيضًا قصص نجاح! نعم، لأن لهم أساليب في الإقناع:

1. فهم يروجون علمًا زائفًا، على أساس أنه علم، رغم أنه متناقض مع المنهج العلمي.

2. ويخلطون بين بعض الحقائق العلمية، فمثلًا عندما يتكلمون عن علم الطاقة الذي لا يُدّرس في أي جامعة بالعالم، يقولون عبارات أكاديمية من منهج فيزياء الصف الثاني الثانوي مثل ميكانيكا الكم وفيزياء الموجات والجذب ويربطه بقوتك الداخلية وتحقيق أحلامك.

3. ويُوصلون إليك كل هذا الكلام في سرد قصصي، ويوهمونك بأنك إن تأملت ومارست اليوجا وفكرت بشكل إيجابي فستصبح على ما يرام، وسيكون عندك قصة نجاح مثل فلان الفلاني.

4. بالإضافة إلى أنهم يرسخون في الأذهان أفكارًا مثل: عقدة المظلومية، والتمركز حول الذات، وأنك تستطيع أن تفعل أي شيء دون أي اعتبارات ودون أن تتوكل على الله، فقط ارغب والكون سيتصرف.

لكن ماذا إن احتجت أن تذهب إلى معالج نفسي؟ كيف تعرف أنه جيد؟
أهم شيء أن تكون مرجعيته سليمة، ويستطيع أن يتعامل مع أبعاد الإنسان كلها من جسد، وعقل، ووجدان، وروح.
فالبعد الوجداني: يحلل فيه مشاعرك، ويوجهها، ويساندها بالدعم النفسي.
والبعد العقلي: يصحح فيه الأفكار والمعتقدات.

والبعد الروحي: يساعدك على الاستبصار، وفهم معنى الحياة والغاية منها، وتزكية النفس.
والبعد السلوكي: يوجه السلوك إلى ما يوافق أفكارك ومعتقداتك الصحيحة.

حكايات التعافي

والآن دعني أحكِ لك قصة من قصص التعافي التي نقلتها إلينا الكاتبة من واقع جلسات إرشادية حقيقية متنوعة، لأشخاص كانت عندهم مشكلات نفسية وحُلَّت بطريقة بسيطة، إذ لم يُضخم المعالجون أو المرشدون الألم عندهم، ولم يحصروهم في فكرة المظلومية، بل أعادوا توجيه بوصلتهم إلى مركزية الوحي والصلة بالله، وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين كانوا في المحنة والمشكلة خرجوا منها وهم يرونها منحة ونقطة تحول وفتحة خير في حياتهم.

هذه القصة عن ولد يمكن أن نسميه في حلقتنا أحمد، أصيب باضطراب ما بعد الصدمة بعد حادثة تُوفي فيها والده، وأقنع نفسه أنه السبب في وفاة والده لأنه لم يستطع التحكم في عجلة القيادة عندما ظهرت أمامهم قطة فجأة على الطريق، ومن وقتها يعيش في عقدة الذنب، ويحلم بكوابيس، وأوقف كل أنشطة حياته وانقطع عن الدراسة بسبب قلة تركيزه وتوتره، ولم تنفعه الأدوية المهدئة والمضادة للاكتئاب.
فكلمه طبيبه المعالج بهدوء وسأله أسئلة عن الحادثة ليجعله يعيش التفاصيل ويحلل أحداثها، ويساعده على تنظيم ذاكرته، ويهضم هذه المأساة عندما يعايش معنى القضاء والقدر والرضا والتسليم بأقدارنا.

وبعدما فهم أحمد هذه المعاني، كانت بداية رحلة علاجه الحقيقية، وقرر أن الأنفع له ولوالده أن يكون عمله الصالح ويكثر من الدعاء له، وأن يعين أهله.

بالتأكيد هذا لا يعني أن كل المشكلات النفسية والاضطرابات العقلية حلها تقويّة الإيمان فقط، فبعض الأمراض تحتاج فعلًا إلى زيارة طبيب أو استشاري مختص، لكن تقوية النفسية من الهشاشة وتحصينها من السرقة يحميك ويجعلك إنسانًا قويًّا راضيًا مطمئنًا.

الخاتمة

وفي النهاية يا صديقي، وسط العصر المليء بالمشكلات والهموم والمعارك الوهمية والجهل الديني، عرفنا اللصوص الذين يسرقون صحتنا النفسية ويبعدوننا عن الطمأنينة ويجعلوننا وسط قلق وخوف، وعرفنا أن أسهل طريق لرجوعنا إلى أنفسنا السوية هو أن نرجع إلى مركزية الوحي.

وأنت يا صديقي.. أخبرنا في تعليق من الذي كان يسرق منك صحتك النفسية، وكيف تُقوي نفسيتك.