الجوع إلى الأمومة: في سبُلِ معالجة الفقدان والتعافي منه

Book-Cover

 المقدمة

ليلى بنت جميلة في الواحدة والعشرين من عمرها، لكن عندها بعض المشكلات، كالعصبية الزائدة وقلة الصبر في التعامل مع الناس، كما أنها تشعر بوحدة غريبة مع أنها لا تتريث في مصاحبة أي أحد يمر بجانبها لتظهر اجتماعية، كل هذا يمكن أن يكون عاديًّا، لكن غير العادي هو علاقتها بأمها.

ليلى لا تستطيع أن تحدد ما إذا كانت تحب أمها أم تكرهها، يومًا تكون علاقتهما جيدة وعلى ما يرام، ويومًا آخر يسود الجفاء والبرود، ويومًا ثالثًا يتشاجران ويصل صوتهما إلى آخر الشارع، سببت هذه التقلبات ألمًا كبيرًا لليلى، وحفرت فجوة كبيرة بينها وبين أمها، وزادت هذه الفجوة بعد وفاة الأم.

وعندما قررت ليلى أن تبحث عن الموضوع وجدت نظرية اسمها نظرية التعلق يمكن أن تفسّر علاقتها بأمها والمشكلات التي تعانيها.

تقول النظرية إن ضعف التعلق المبكر للطفل بالأم يسبب له مرضًا اسمه الجوع إلى الأمومة، ويكون هذا المرض مؤلمًا جدًّا، وله أعراض صعبة كالتي تعانيها ليلى.

أما نحن فسنتكلم عن الأمومة بوصفها وظيفة، وواجباتها وتأثيرها في الطفل، وسنعرف أسباب الجوع إلى الأمومة، وكيف نتعافى منه، ولو أنت أم فستعرفين كيف يجب أن تتعاملي في أول بضع سنوات لطفلك.

إذًا ما حكاية الجوع إلى الأمومة؟!

ما الأمومة؟

مبدئيًّا يوجد سؤال يبدو بسيطًا لكنه مهم جدًّا، ما تعريف الأمومة؟

الأمومة يا صديقي أهم وظيفة إنسانية على الإطلاق، ولها ثلاثة أبعاد مُوجهة إلى الطفل، البُعد الأول هو الرعاية، أي توفير التغذية السليمة الصحية للطفل، والبُعد الثاني هو الحماية، أي أن تُبعد الأمُّ الطفلَ عن أي مسببات للألم، وتوفر له أسباب الراحة، أما البعد الثالث فهو التوجيه، أي أن تكون الأم قدوة ونموذجًا، خصوصًا لبناتها، تعلمهن كيف يتفاعلن مع الناس من حولهن، وكيف ينظرن إلى أجسامهن ويهتمن بأنفسهن، وأشياء أخرى كثيرة.

الطفل يحتاج إلى الأم بجانبه طوال الوقت، لكن في السنوات الأولى لولادته، يكون دور الأم محوريًّا أساسيًّا أكثر من أي شيء آخر، لأنها مصدر الرعاية والحماية والتوجيه، كما أنها توفّر الحب غير المشروط، وأي خطأ كبير أو تقصير ضخم في هذه الأشياء يسبب ألمًا للطفل، ويصبح تعلقه بالأم غير آمن، ويظهر عنده الجوع إلى الأمومة.

لا يكون راغبًا في الطعام يا صديقي، أقصد أنه يشتاق إلى حب الأم غير المشروط، ويبحث عنه طوال عمره، ويتخبط في الناس وفي الدنيا، ولن يجده مع الأسف.

انتظر يا أخضر، كيف سيتذكر الإنسان عندما كان في الثانية أو الثالثة من عمره؟ هل كان طفلًا خارقًا؟

يعجبني أنك يقظ متسائل يا صديقي، سأشرح لك..

عندما يولد الطفل تكون داخله رغبات بيولوجية يجب إشباعها، كأن يرضع ليتغذى، ويظل محمولًا وقريبًا من الأم، وإن ابتعدت عنه قليلًا فلن ينام من في البيت اليوم، هو طبعًا لا يملك ذاكرة واعية، لكن عنده ذاكرة جسدية تختزن لمسات الأم، وتعطي له الفرصة لينمو عاطفيًّا وصحيًّا واجتماعيًّا في ما بعد، أرأيت يا صديقي؟ يضع سره في أصغر خلقه، لا تسخر من الأطفال في ما بعد! :D

نظرية التعلق

ولنفهم أكثر قصة الجوع إلى الأمومة، يجب أن نرجع إلى نظرية التعلق، يقول الدكتور دانيال سيجل | Daniel Siegel عن التعلق:

إنه علاقة شخصية بين طرفين، واحد غير ناضج، أي الطفل، وطرف آخر ناضج، أي الأم، يعتمد الطفل على الأم في كل شيء لينظّم عملياته الخاصة، أي يأكل ويشرب من الأم، وينام قريبًا من الأم، يُحمَل ويحصل تواصل جسدي من الأم أيضًا، كل التفاعلات الأولية في حياة الطفل مصدرها الأم، ومن ثم تُسجَّل في الذاكرة الجسدية للطفل كما قلنا، لذا يجب أن يكون التعلّق آمنًا، لكن كيف؟

يجب أن يتوافر مبدآن أساسيان في التعلّق:

المبدأ الأول: الحضور: أن تكون الأم موجودة، ليس بجسمها فقط، بل عاطفيًّا أيضًا، وتكون منتبهة لإشارات الطفل، فإن بكى الطفل لا تفترض أنها يجب أن تتركه يبكي حتى يستقل ولا يحتاج إلى أن يُحمَل باستمرار، مع أن الطبيعي أن تسرع لتعرف سبب بكائه، هل يريد أن يرضع أو يُحمَل؟ هل يريد أن تتحرك به لبعض الوقت؟ لأن البكاء هذا يشير إلى احتياجه؛ إنه طفل، لا يستطيع الكلام.

أما المبدأ الثاني في التعلّق الآمن فهو ترجمة الحب إلى أفعال، يجب أن تظهر مشاعر الأم تجاه طفلها في أفعالها، فمن غير المعقول أن تحبه وتقضي أغلب يومها خارج البيت لا تعرف عنه شيئًا، أو تؤذيه بالضرب أو العقاب.

هل معنى هذا يا صديقي أن أي خطأ يحدث يعني أن التعلّق فسد؟

لا، كل الأمهات يخطئن لأنهن بشر، لكن الأمهات اللائي يصلحن أخطاءهن، ويعوضن الطفل عنها، هن اللائي يستطعن بناء تعلّق آمن مع الطفل، لكن إن تجاهلت الأم الأخطاء واستمرت، فمع الأسف ستكون النتيجة في ما بعد مؤلمة للطرفين.

الرعاية

هكذا تكلمنا عن الجوع إلى الأمومة وعلاقته بنظرية التعلّق، أتذكر أبعاد الأمومة الثلاثة؟ الرعاية والحماية والتوجيه، سنتكلم قليلًا عن كل واحدة، وسنبدأ بالرعاية.

وهي لا تتلخص في تغذية الطفل فقط، الأمر أكبر من هذا، فأي تفاعل بين الأم والطفل داخل في الرعاية، بداية من اللمس حتى النوم، يجب أن يتحقق شرط القرب الجسدي للأم من الطفل، وأكبر خطأ يمكن أن تقع فيه الأم هو الانفصال لساعات طويلة عن الطفل، خصوصًا في أول ثلاث سنين، سواء في عمل أم خروج، أو حتى محاولة استدعاء أحد غيرها يؤدي دور الرعاية هذا؛ يجب أن تكون الأم نفسها موجودة.

الحماية

وذلك لتحقق ثاني بُعد من الأمومة، وهو الحماية، الناس يعتقدون أن حماية الطفل مرتبطة بالخوف الشديد عليه، وعزله عن العالم الخارجي، لكن هذه أكثر صورة خطأ عن الحماية، أما الصورة الصحيحة فهي الحب والاهتمام والانتباه لكل احتياجات الطفل وإشباعها، وإبعاده عن مسببات القلق والخوف، وإن لم يحدث هذا، فستحدث انعكاسات سلبية كثيرة على الطفل، كالاضطرابات السلوكية ونقص الانتباه، أو إدمان سلوكيات معينة لجذب الانتباه والحب عندما يكبر، وتوجد أربع صور مشهورة للإدمان:

أولًا: إدمان الحب، أي استمرار البحث عن مشاعر الحب في العلاقات التي يكونها ويصبح عنده هوس بالعواطف وإن كانت مؤذية. ثانيًا: إدمان ممارسة الرياضة في محاولة للوصول إلى الرضا عن النفس، وليس بالشكل الصحي المطلوب. ثالثًا: إدمان الإفراط في الأكل. رابعًا: الإفراط في العمل.

إن كان في البيت أكثر من طفل، فسيكون الحب والانتباه نادرين أصلًا، لذا سيتنافسون على الحصول عليهما، وهذا يمكن أن يولّد بينهم الكراهية.

التوجيه

الآن ننتقل إلى ثالث بُعد من أبعاد الأمومة وهو التوجيه، وبعدما يقوى الرابط بين الأم والطفل، سيأتي وقت يحتاج فيه الطفل إلى نموذج أو شيء يكون مثل الكتالوج، وهذا يحدث في حالة البنات أكثر، إذ يحتجن أن يروا كيفية التعامل مع أنفسهن والعالم الذي يطلعن عليه من خلال الأم، وبالطبع التوجيه الأبوي مهم أيضًا، لكن في حالة البنات يأتي بعد دور الأم، ويكون عليه الاستماع والدعم والمشاركة، وطبعًا في حالة الأولاد يكون دوره في الحماية أهم من الأم، لأنهم سيتعلمون منه معنى الرجولة، وبالتأكيد طبيعة العلاقة بين الأب والأم مهمة جدًّا، لأنها أول صورة عن العلاقات تُقدَّم إلى الطفل، إذ يرى فيها كيف يتعاملان معًا، وكيفية كلامهما معًا، هل تكون بصوت عالٍ وشجار أم بهدوء وتفاهم.

وإن لم تقدر الأم أن تعطي التوجيه الكافي للطفلة، كيف سيؤثر هذا فيها؟ ستكبر وهي ترى نفسها غير كافية، وتشعر دائمًا بالذنب وأنها السبب، كما أنها لن تستطيع أن تتخذ قرارًا مستقلًّا في حياتها، ستشعر باستمرار بانعدام الأمان، وطبعًا ستبحث عما ينقصها في العلاقات مع الناس.

الإساءات العاطفية

مشكلة بعض الأطفال ليست أنهم يأخذون احتياجاتهم من الأمومة ناقصة، بل أنهم أيضًا يتعرضون لإساءات عاطفية، وهي كالجرح الذي بترك علامة في نفس الطفل، ومن أشهر صور الإساءات العاطفية خمس صور:

الصورة الأولى هي الإهمال، أي أن تتجاهله الأم، والصورة الثانية هي الإفراط، سواء في الحب أم في أي سلوك، يجب أن تكون سلوكيات الأم متوازنة، والصورة الثالثة للإساءات العاطفية هي الإهانة اللفظية، كالشتم والتقليل من شأن الطفل، أما رابع صورة فهي الرفض، وتعني ألا يكون الطفل مقبولًا لذاته وطبيعته، ولا يحصل على الحب غير المشروط من الأم، وآخر صورة وأصعب هذه الصور هي الأذى الجسدي، وهو طبعًا غير مقبول تحت أي ظرف أو أي مبرر، ويُعدُّ استسهالًا من الأم والأب في التربية والعقاب، يمكن أن يفي الأذى الجسدي بالنتيجة المطلوبة على المدى القصير، ويجعل الطفل مطيعًا ويفعل ما يُطلَب منه خوفًا وقهرًا، لكن على المدى الطويل، أثبتت الأبحاث أنه مضرّ جدًّا لنفسية الطفل وغير إنساني، ويربي لنا إنسانًا غير سوي في المستقبل.

رحلة التعافي

هكذا فهمنا الجوع إلى الأمومة وعرفنا أسبابه ونتائجه، ننتقل الآن إلى أهم جزء، كيف نتعافى من هذا المرض؟

دعني أخبرك أولًا أن الإحساس بالخوف طبيعي في مرحلة التعافي، لأنها مرحلة صعبة جدًّا، تختلف سرعتها من شخص لآخر، إذ يمكن أن يتعافى شخص بسرعة لأن درجة تأثره ليست عميقة جدًّا، وشخص آخر يمكن أن يحتاج إلى سنين لينسى ويتعافى، ويمكن أن تكون الأم متوفاة، مما يصعّب الأمر أكثر، لكن على أي حال التعافي ممكن.

لقد حللنا الأمومة لثلاثة أبعاد أساسية، أتذكرها؟ 

الرعاية والحماية والتوجيه، سنحاول في رحلة التعافي أن نوفر هذه الأبعاد بجهود ذاتية، أي نوفّر رعاية ذاتية وحماية ذاتية وتوجيهًا ذاتيًّا.

ولنوفّر الرعاية الذاتية سننتبه لأكلنا وعاداتنا اليومية، ونضبط النوم وجوَّ البيت، ويمكن أن نمارس رياضات خفيفة كالمشي، ونثبت روتينًا من الأعمال المفيدة، حتى لا نشعر بفراغ كبير في اليوم، وطبعًا يجب أن نتحكم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ونعتاد قدرًا من العزلة يجعلنا لا ننجرف في العلاقات مع الناس.

التغذية الذاتية الجيدة ستساعدنا على الحماية الذاتية، التي سنحاول أن نبتعد فيها عن أي مسببات للخطر كالأفلام والعروض العنيفة، وممارسة الرياضة ستحفز جهازنا العصبي، لنستجيب بطريقة أفضل للخطر الخارجي، هكذا ينقصنا شيء واحد فقط، وهو الارتباط بأشخاص جيدين، نختار دائرة المقربين منا بحرص، لنتعلّق بهم تعلقًا صحيًّا.

أما التوجيه الذاتي فهو اكتشاف الأهداف الحقيقية لحياتنا، وليس توقعات الأهل أو الآخرين عما يفترض أن نفعله في حياتنا.

لكن من الواضح أن رحلة التعافي طويلة!

إرشادات للتعافي السريع

قلت لك يا صديقي إن الرحلة ليست سهلة، لكن لدينا خمسة إرشادات يمكن أن تساعدنا وتسرّع رحلة التعافي، أول إرشاد هو تحديد الاحتياجات الأساسية المفقودة، هل نعاني الخوف أم القلق أم النقص في التغذية والرعاية؟ عندما نحدد المشكلة سنركز عليها في التعافي.

أما ثاني إرشاد فهو عدم انتظار الاعتذار، مهما كانت تجارب الطفولة مؤلمة، فالاعتذار لن يغيّر شيئًا أو يعوّضه، إنه حيلة نفسية لتأخير رحلة التعافي، نقنع أنفسنا أن كل شيء سيكون على ما يرام إن حصلنا على اعتذار مما حدث، ويمكن فعلًا أن تعتذر الأم، لكن لا يمكن أن نوقف رحلة التعافي من الجوع إلى الأمومة على مسألة الاعتذار.

أما ثالث إرشاد للتعافي السريع فهو فهم الحزن، الاعتراف بالجوع إلى الأمومة ليس سهلًا أبدًا، إذ لا يوجد دعم مجتمعي للمصابين بهذا المرض، بالإضافة إلى أن ثقافتنا تحتاج إلى اهتمام أكبر بمواضيع التربية عمومًا، لذا يجب أن نسمح لأنفسنا بالشعور بالحزن وكل المشاعر السلبية كالغضب والقلق في أثناء رحلة التعافي، لأن تجاهل الجانب العاطفي للرحلة لا يساعد على الحل، بل يكون جزءًا من المشكلة.

أما رابع إرشاد والأخير فهو طلب دعم المتخصصين، إن طالت رحلة التعافي دون تقدم ملحوظ، أو إن زادت أعراض الألم وخرجت عن السيطرة، يجب أن نلجأ إلى طبيب نفسي جيد يساعدنا.

لوم الأم ليس الحل

وفي النهاية يا صديقي أسهل شيء يمكن أن نفعله هو لوم الأم، وتحميلها مسؤولية كل الأخطاء التي حدثت في الطفولة، لكن هذا ليس صحيحًا؛ أمهات كثيرات بذلن أقصى ما عندهن في رعاية أطفالهن، لكنهن أيضًا يخطئن نتيجة ضعفهن البشري، كلنا بشر ونخطئ، لكن اللوم الحقيقي يجب أن يُوجَّه إلى الثقافة بسبب تخزينها للمفاهيم المشوهة والتصورات الخطأ عن الأمومة والتربية ودور الأب، وتقليلها من دور الأم لحساب العمل وتحقيق الذات.

وأنت تعرف طبعًا أن صديقك أخضر عملاق ثقافة ومعرفة، لكني لا أحب أن أتكلم عن نفسي، فإن كنت سأعطيك نصيحة في هذا الموضوع، فهي أن تستعد للأدوار التربوية، الأم يجب أن تتعلم الأمومة وتستعد لها، ولا تفترض أنها وحي منزل من السماء سيحل عليها فجأة، والأب أيضًا يجب أن يتعلم دوره ويطلع عليه.