شفرة الموهبة

Book-Cover

 

المقدمة

في عمارة هادئة بعد منتصف الليل، في بيتين متجاورين، نور الصالة ما يزال مُضاءً، أيمن في البيت الأول يمسك هاتفه وكثيرًا ما تظهر له على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات تقول "اتبع شغفك" و"اطّلع على موهبة فلان الفلاني"، وهو يجلس حزينًا لأنه مقتنع أنه لم يولد موهوبًا مثل هؤلاء الناس. 

أما في البيت الثاني يجلس أشرف وأيضًا يمسك هاتفه، ولكنه متضايق من تعليق صاحبه على صورة رسمها ونشرها على فيسبوك، يقول له في التعليق: "يا لحظك أيها الموهوب!".

هكذا عندنا اثنان متضايقان، واحد يتمنى أن يكون موهوبًا والثاني يكره أن يُوصَف بالموهبة، إذًا ما الأمر؟ 

هذان المثالان يكشفان خطأً كبيرًا جدًّا يقع فيه الناس، وهو الاعتقاد بأن الموهبة شيء رباني يولد به بعض الناس ويُحرمه بعضهم الآخر.

لذا فأيمن متضايق لأنه متخيل أنه من البعض الآخر، وأشرف متضايق لأن الناس يتخيلون أنه وُلِدَ يرسم بهذا الشكل ولا يعرفون ما خفيَ.

حسنًا وما الذي خفيَ؟ وما المعنى الحقيقي للموهبة؟ وكيف تتأتّى؟

الحقيقة أن أمر الموهبة حير الكاتب دانيال كويل جدًّا، وقرر أن يذهب في رحلة إلى الأماكن التي تُعد "مكامن للموهبة" ليكشف أسرارها، واستطاع فعلًا أن يكتشف العناصر الثلاثة التي تفك شفرتها، ووضعها في كتابه "شفرة الموهبة.. التفوق لا يولد بل ينمو، ها هي الطريقة".

شفرة الموهبة

لو نظرنا حولنا وبحثنا بين أكثر الناس موهبة وشهرة في العالم سنكتشف أن لا أحد منهم مثل الآخر، لا في الظروف ولا التعليم ولا أي شيء، لذا فالتغطية الإعلامية تتعامل مع كل موهبة تظهر على أنها  ظاهرة استثنائية تستحق أن نقف أمامها مندهشين دون أن نسأل لماذا حدث هذا وكيف، لأنه لا يوجد إجابة!

وهذا طبعًا ما رفضه دانيال، وبعد رحلته في مكامن الموهبة المختلفة اكتشف سر الموهبة الذي يتمحور حول اكتشاف علمي وثوري عن عازل عصبي اسمه "المايلين"!

وما هذا المايلين؟

سأخبرك.. لو قلنا إن دماغنا دائرة، فهذه الدائرة مليئة بأسلاك تربط مناطق الدماغ بعضها ببعض، أما المايلين فهو عزل حول هذه الأسلاك الكثيرة، وهل هذا العزل شيء إيجابي؟ طبعًا، هذا العزل يساعد على توصيل الرسائل بشكل أسرع وأكثر فعالية، كما أنه يقلل فرص الأخطاء.

إذًا كيف أزيد المايلين؟

المايلين ينمو استجابةً لإشارة معينة، فمثلًا لو أنك تتعلم رسم وردة فساعتها يستجيب المايلين بأن يلف طبقات من العزل حول الدائرة العصبية الخاصة بهذه المهارة، وكلما بذلت طاقة ووقتًا في التمرين أضيفت طبقة جديدة من العزل، مما سيجعلك قادرًا على أن ترسم الوردة بشكل صحيح تلقائي كأنك تكتب اسمك.

وهل ينطبق هذا الكلام على كل المهارات؟

 نعم.. فمثلًا يبدو لك أن لا شيء مشتركًا بين الرسامين ولاعبي التنس والنجار الماهر، إلا أن الشيء المشترك الوحيد بينهم هو أن عندهم كثيرًا من المايلين، وهذا المايلين لم يتكون على أساس تخيلاتهم وأحلام اليقظة، ولكن استجابةً لعملية التدريب المستمر، والطاقة المبذولة بشغف، وهذه هي عناصر شفرة الموهبة! 

لأن شفرة الموهبة يا صديقي تتكون من ثلاثة عناصر، هي:

تدريب عميق + اشتعال + تدريب متخصص، وسنتكلم عن كل عنصر منهم بتفصيل أكثر! 

وسنبدأ بأول جزء من الشفرة وهو التدريب العميق. 

التدريب العميق 

واسمح لي يا صديقي أن أفاجئك من البداية وأقول لك إن التدريب العميق يعني فشل! نعم كما سمعتني، التدريب العميق يشجعك على أن تجرب وتفشل، وتجرب مرة أخرى وتفشل مجددًا، وهكذا..

وتعالَ نضرب مثالًا بواحدة من أبرز مكامن الموهبة التي زارها الكاتب وهي البرازيل، المشهورة بتقديم مواهب عظيمة في كرة القدم.

لكن لم يوجد شيء مادي يقيس أسباب الموهبة الكروية هذه في هذا المكان تحديدًا، وكان هذا الأمر لافتًا لنظر كثير من الناس في مجال الكرة، ومنهم المدرب البريطاني "سيمون كليفورد" الذي قرر أن يسافر إلى البرازيل ليعرف هذا السر.

 واكتشف هناك لعبة غريبة تشبه كرة القدم لكن الكرة التي تُلعب بها حجمها أصغر وأثقل من كرة القدم بكثير، ولم تكن تقفز حتى وسموها بـ"الكرة الخماسية"، وتعد لعبة الطفولة التي يلعبها كل الأطفال البرازيليين وكان من ضمنهم "جونينو" و"رونالدينهو" اللذان أصبحا من أعظم اللاعبين في العالم.

وهل يوجد فرق كبير بينها وبين "الكرة الشراب"؟ 

الفرق أن هذه اللعبة تجعل اللاعبين يلمسون الكرة أكثر، وبسبب حجمها الصغير وثقلها تحتاج إلى دقة وتركيز أكثر في التعامل معها، ومن ثم كانوا يخطئون كثيرًا جدًّا ثم يصححون أخطاءهم، وهذا هو "التدريب العميق".

هذا فقط؟ أول سر في الموهبة هو التدريب؟ ألا نُولد بها كما يقول هذا الأستاذ؟

لا.. نهائيًّا.  

مايكل أنجلو نفسه يقول: "لو عرف الناس كم تعبت لأصل إلى هذه العظمة التي يتكلمون عنها لما عدّوها عبقرية أو ظنوا الأمر رائعًا". 

مشكلتنا في معرفة الموهبة هي أننا نراها بعد تبلورها، أي إننا نرى المنتج النهائي، اللوحة أو الأغنية أو الرواية، لكننا لا نرى التجارب الشاقة التي كانت وراءها ولا التدريب العميق! 

ولِمَ سُمِّيَ "التدريب العميق"؟ هل كلمة "التدريب" وحدها قصرت معنا؟ 

اسمه عميق لأن ليس أي تدريب يجعلك عظيمًا في مجالك، أما التدريب العميق فله ثلاث قواعد مهمة جدًّا يجب أن تفهمها جيدًا وتطبقها..

قواعد التدريب العميق الثلاثة 

1-القاعدة الأولى هي التجميع، وهذا يحدث على ثلاث مراحل:

- المرحلة الأولى هي أن تمتص كل شيء.. 

بمعنى أن تقضي وقتًا في تأمل ومشاهدة المهارة التي ترغب في تنميتها، سواء كانت حركات فرشاة رسم أو طريقة مسك مضرب التنس، وهذا سيجعلك تمتص صورة المهارة حتى تكون قادرًا على أن تتخيل نفسك تفعلها ثم تفعلها فعلًا. 

- المرحلة الثانية هي أن تقسم المهارة أجزاءً صغيرة.. 

وهذا سيجعلك تتقن كل جزئية صغيرة، ولن تتخوف من المهارة التي تحاول تعلمها إن كانت كبيرة. 

- المرحلة الثالثة والأخيرة تنصحك بالبطء..

أي لا تتعجل وأنت تتعلم، تقول الأبحاث إن إتقان مهارة إلى حد العبقرية يحتاج إلى أن تتدرب عليها لمدة 10 آلاف ساعة، فلا تبدأ تعلم مهارة اليوم وتحزن غدًا لأنك لم تصبح عبقريًّا فيها!

هكذا تكون أول قاعدة من قواعد العمل العميق قد انتهت.

2- القاعدة الثانية هي التكرار 

لا شيء فعال في بناء الموهبة غير أن تمارسها، تريد أن تنمي موهبة الرسم، ارسم وارسم وارسم، ولو أنك قضيت سنين تتعلم مهارة ثم أهملتها شهرًا فقط لتبخّرت! التدريب اليومي مهم جدًّا مهما شعرت أن مستواك متقدم. 

يقول "فلاديمير هوروتز" عازف البيانو المشهور: "إن أهملت التدريب ليوم واحد فقط ألاحظ هذا، ولو أهملته ليومين تلاحظ زوجتي، ولو أهملته ثلاثة أيام يلاحظ العالم كله!".

3- القاعدة الثالثة والأخيرة هي أن تنمي إحساسك 

والمقصود هنا أن تهتم بكل تفصيلة خاصة بالتدريب، لا تبدأه وأنت في حالة من الملل تريد أن تنجزه بأي شكل، بل هيّئ نفسك تمامًا لمهمة التدريب بحيث تشعر بأخطائك وتدركها ولو كانت لمدة ثانية.

هكذا انتهينا من الجزء الأول من شفرة الموهبة وهو التدريب العميق، ننتقل الآن إلى الجزء الثاني الذي يتكلم عن الشغف وهو أكثر شيء يُذكر عندما نتكلم عن الموهبة، ولكن الكاتب يسميه هنا "الاشتعال".

الاشتعال

قلنا إن التدريب العميق يزيد المايلين، والمايلين هو الذي يحسّن مستوانا، فما علاقة الشغف إذًا؟ من دون الشغف وعملية الاشتعال هذه لن تستطيع أن تبذل الجهد الكافي لتتدرب بشكل عميق، ومن ثم لن ينمو المايلين. 

سأوضح لك، الاشتعال والتدريب العميق يعملان معًا بالطريقة نفسها التي يعمل بها خزان البنزين مع الموتور لتسير السيارة، أي إن الاشتعال يزيد الطاقة والتدريب العميق يترجم هذه الطاقة إلى خطوة نحو الأمام. 

عندما زار دانيال مكامن الموهبة كان يلاحظ هذا الشغف في طريقة حمل الناس للكمنجات وفُرش الرسم، وفي نظرات أعينهم المليئة بالفضول والشوق والحب، وعندما حاول أن يسألهم عن مصدر هذا الشغف، نظروا إليه وقالوا بينهم وبين أنفسهم "ما هذا السؤال الغريب؟"، ولم يستطيعوا أن يتذكروا متى أحبوا الموسيقى أو الرسم بهذا الشكل ولماذا.

لكن ليست هذه هي الحالة السائدة المستمرة، في بعض الحالات نستطيع أن نعرف بالضبط متى اشتعل الشغف، فلاعبات الجولف في كوريا الجنوبية مثلًا اشتعل عندهم هذا الشغف يوم 18 مايو 1998 بالضبط! 

لماذا؟

في هذا اليوم فازت بنت اسمها "سي ري باك" من كوريا الجنوبية ببطولة ماكدونالد لاتحاد الجولف للسيدات وهي في سن العشرين، وقبلها لم ينجح أحد من البلد كلها في رياضة الجولف، ومن بعدها ظهرت نقلة رهيبة واحتلت بنات كوريا الجنوبية بطولة اتحاد الجولف للسيدات بـ45 لاعبة فزن كلهن بنحو ثلث المسابقات عالميًّا!

وكل هذا لأن واحدة فقط منهن استطاعت أن تحقق هذا وعلمن أن المستحيل أصبح ممكنًا واشتعل الشغف!

حسنًا هل توجد طرائق أخرى يشتعل بها الشغف؟

نعم بالطبع.. في التسعينيات مثلًا تحير الأهالي ومدرسو الموسيقى في سبب تقدم بعض الطلاب بسرعة في دروس الموسيقى عن بعضهم الآخر، وأجروا بحثًا لدراسة الأمر فاكتشفوا أن لا مهارات الطفل ولا حتى عدد ساعات التدريب هي السبب، ولكن السبب كان اعتقاد الطفل بأنه سيستمر في العزف على هذه الآلة لمدة طويلة وشعوره بأنه موسيقار فعلًا، وهذا هو أساس تفوق بعض الطلاب عن غيرهم.

فلا تخف من فكرة البحث عن الشغف، لأنك ببساطة جدًّا يمكن أن تجده بعدما شاهدت فيديو عن التطريز صدفة وقررت أن تجرب ومن ثم أحببت الأمر واستمررت فيه، إذًا لا يجب أن تجوب القارة لتجد شيئًا تحبه.^^

وعمومًا هذا الاشتعال ليس له طريقة محددة، بل يحدث استجابة لإشارات مختلفة نراها حولنا، يمكن أن تكون كبيرة أو صغيرة، لذا أنت تحتاج إلى أن تفتح عينك ودماغك على التجارب الجديدة المختلفة ولا تقيد نفسك بأية فكرة، فربما غدًا تلهم الناس بشيء ظنوه مستحيلًا.

حسنًا هكذا نكون قد ألهبنا الشغف وتدربنا تدريبًا عميقًا، ماذا يتبقى لنا؟ 

يتبقى السر الأخير وهو التدريب المتخصص

 التدريب المتخصص 

تدريب آخر؟ نعم لكن هذا التدريب يكون على أيدي الأساتذة والمتخصصين الذين سيحسنون موهبتك. 

بالطبع تذكرت الآن المدرب في الفيلم الأجنبي الذي صرخ في اللاعبين قبل المباراة وخطب فيهم خطابًا حماسيًّا يجعلك أنت شخصيًّا تتحمس وأنت تشاهد، أو المدرب توفيق عبد الحميد في فيلم حلم العمر وهو يضرب حمادة هلال ليلعب!

ولِمَ وجع القلب هذا؟ هل أحتاج إلى مُدرب أصلًا؟

هو ليس ضروريًّا بهذا الشكل حرفيًّا لأنك يمكن أن تصل إلى النجاح وحدك، لكن يُفضّل وجود مُدرب أو مرشد واعٍ يساعدك لتحقق العظمة، وأيضًا لتسد الفجوة التي ربما توجد في تدريبك. 

مثل الكابتن حمدي نوح الذي لاحظ قدرات محمد صلاح وحُبه لكرة القدم عندما كانت سِنه 14 سنة، وقرر أن يدربه ليقوّم عيوبه ليصبح الآن من أعظم اللاعبين في العالم. 

وهؤلاء المدربون لا يعتمدون على الكلام والخُطب، بل لديهم خبرة كبيرة في مجالاتهم تجعلهم يقدمون تعديلات صغيرة ومحددة جدًّا بعدما يعرفون الشخص الذي يدربونه جيدًا، وهؤلاء يسميهم الكاتب "محرضو الموهبة".

وهم يتمتعون بأربع صفات مهمة جدًّا:

- الصفة الأولى: العمق المعرفي

أغلب المُدربين الذين قابلهم دانيال في مكامن الموهبة كانت سنهم تتراوح بين الستين والسبعين، أي إنهم قضوا عشرات من سنين من عمرهم يتعلمون كيف يدرِّسون ويدرِّبون بشكل صحيح، ومن ثم عندما يصلون إلى الستينيات مثلًا يستطيعون أن يلاحظوا ما يحتاج إليه كل طالب ليتحسن ويساعده على الوصول إلى ما ينقصه، ومن ثم يحقق الهدف الذي يرغب في الوصول إليه. 

- الصفة الثانية: سرعة الإدراك

المُدرب الماهر لا يعامل طلابه كلهم بالطريقة نفسها، لأن كل  طالب له حكايته وطريقته وهدفه وذكاؤه، لذا فكل واحد يحتاج إلى معاملة خاصة تناسبه يحددها المدرب الذي يرى كل هذا ويختار طريقة المعاملة. 

- الصفة الثالثة: يسميها دانيال الـ"جي بي إس التلقائي"

ويُقصد بها الحسم، فالمدرب لا يقول للمتدرب "لو سمحت" أو "ما رأيك أن تفعل كذا"، بل يأمره. كالراجل في فيلم whiplash، كان قاسيًا لكنه ماهر!

- الصفة الرابعة والأخيرة: الصدق المسرحي

كما قلنا، المُدرب يفصّل كلامه وتوجيهاته حسب كل طالب وما يحتاج إليه، لذا يحتاج من الآخر أن يؤدي دوره جيدًا، سواء كان جادًّا أو مرحًا.

حسنًا، أين أجد هذا الأخ؟ لا دليل لكيفية إيجاد شخص كهذا لكن الأكيد أن في وقتنا الحالي المُدرب الجيد الذي تحب أن يساعدك ليس شرطًا أن يكون أحدًا تقابله يوميًّا وبشكل مباشر، يمكن أن يكون أحدًا تعرفه عن طريق الإنترنت، المهم أن يستطيع أن يفيدك ويتمتع بهذه الصفات.^^

هكذا يا صديقي نكون قد انتهينا من شفرة الموهبة، تدريب عميق + اشتعال + تدريب متخصص، دورك أن تستعين بهذه العناصر لتنمي المهارة التي تحبها أو التي تتمناها، وتتوقف عن التفكير في فكرة "أنا لم أولد موهوبًا".