فن الحرب

Book-Cover

 مقدمة

في فترة ما في التاريخ الصيني منذ نحو 2500 سنة، لم يكن أحد مُتوليًا الحكم، وكل العائلات القوية كانت تحلم بالحصول على العرش لكنها تنتظر الفرصة، ومن ضمن هذه العائلات عائلة اسمها "هان" وعائلة أخرى اسمها "تشو"، لكن هاتين العائلتين بدأتا حربًا استمرت أربع سنين، انتهت بفوز عائلة "هان" وقائدها "ليو بانج".

هذا على الرغم من أن جيش عائلة "تشو" كان أكبر، وانتصر في معارك أكثر من عائلة "هان"! إذًا ماذا حدث؟

ما حدث هو أن "ليو بانج" كان يعتمد في استراتيجيته على عنصرين، واحد منهما إنسان عادي مثلنا كان يخطط له، والعنصر التاني كان وَرَقيًّا. ما هذا الذي تقوله يا أخضر؟

كما أقول لك يا صديقي، المُخطط الاستراتيجي الثاني هذا كان مخطوطة "فن الحرب"، التي تقدم استراتيجيات وخططًا تجعل أضعف رئيس دولة ينتصر في أية حرب! 

الكلام منطقي، أليس كذلك؟ الآن ركز في ما يلي..

 بعد مئات السنين من هذه الحرب وتحديدًا في سنة 2019، سُئِل مُدرب كرة القدم الأمريكي "بيل بيليشيك" عن مصدر نجاحه الكبير مع فريق Patriots، وقال ساعتها إنه يعتمد على كتاب "فن الحرب" مصدرًا أساسيًّا لخطط واستراتيجيات اللعب، ولم يخذله قط!

ثانية واحدة! ما علاقة استراتيجيات الحرب بخطط لعب الكرة؟ هل سرحت بخيالك قليلًا يا أخضر؟ 

لا يا صديقي، أنا حتى لم أخبرك بالأخطر بعد، وهو أن هذا الكتاب يُستخدم في التسويق والقيادة وإدارة المشاريع، ولن أبالغ إن قلت إنه يُستخدم في العلاقات العاطفية!

وكيف هذا؟

هذا ما ستعرفه في حلقة اليوم عن كتاب "فن الحرب" لـسون أتزو، ودعنا نبدأ من أول الأمر، كيف يُؤخذ قرار الحرب أصلًا؟

كيف يؤخذ قرار الحرب؟

لا شيء أخطر في حياة أي بلد من قرار شن الحرب، لأنه لا يؤثر فقط في الجنود الذين يضحون بأرواحهم فيها، ولكنه يؤثر في أفراد المجتمع ككل، ويمكن أن يحول بلدًا كاملًا في وقت قليل إلى أرض خراب!

لذا فمعرفة فنون الحرب شيء ضروري ومن أساسيات الحُكم التي يجب أن يتمتع بها حاكم أي دولة. 

وإن أراد الحاكم أن يقيّم فعلًا قضية الحرب قبل أن يأخذ قرارًا بخصوصها، فلديه خمسة عوامل أساسية يجب أن يعتمد عليها:

- القانون الأخلاقي بين القيادة والشعب، هل بينهما تناغم وشعور حقيقي بأن القيادة تعمل من أجل الشعب، ومن ثم يمكن أن يضحي الشعب بنفسه من أجلها أم لا؟ 

- شخصية القائد العسكري الذي يجب أن يكون حكيمًا صادقًا شجاعًا مُنضبطًا، وتظهر صفاته هذه في قراراته. \

- المناخ، وهل العناصر المناخية كدرجات الحرارة وحركة الرياح في صالح جيشه أم لا؟

- عامل خاص بالجغرافيا وكل ما تضمه من جبال ووديان، ومخاطرها واحتمالات النجاة والموت عليها.

- النظام العام، ومقصود به طريقة تنظيم الجيش وتقسيمه، وطريقة توزيع الرتب العسكرية وغيرها.

وعلى أساس هذه العوامل يقرر الحاكم هل سيشارك في الحرب أم لا.

ها أنت ذا لم تذكر الرياضة ولا العمل، هل كنت تخدعنا يا أخضر؟ 

عيب عليك يا صديقي، العوامل التي ذكرتها بالضبط يمكن أن نقيّم بها أي قرار مهم مثل الانضمام إلى شركة جديدة. فعلًا؟!

فعلًا.. القانون الأخلاقي هذا يمثل العلاقة بين الإدارة والموظفين، هل هي علاقة تبادلية والإدارة فعلًا تشعر بالموظفين وتقدرهم وتتعامل معهم مباشرة؟

أما شخصية القائد فطبعًا مرتبطة بالمدير وشخصيته، وأما المناخ فيمثل أحوال سوق العمل ككل، هل هي سوق مُبشرة أم ستختفي بعد يومين؟ أما النظام العام فمتعلق بنظام الترقيات، هل يعتمد على أسس صحيحة أم الواسطة؟ وهكذا..
صدقتني يا صديقي؟😇

نرجع الآن إلى الحرب الفعلية، إن لم يجد الحاكم مفرًّا من المشاركة في الحرب، فما الذي يجب أن يحدث؟ سأخبرك..

بعد اتخاذ قرار الحرب

 يجب أن يدرك الحاكم شيئين مهمين بعدما يقرر أنه سيشارك في الحرب: 

 - أولهما أن الحرب خدعة! 

وأن أكبر خدعة هي أن يكسب الحرب دون قتال أصلًا! 

حقًّا؟! اسمع يا صديقي.. يقول سون أتزو إن قمة التفوق ليست الفوز في مئة معركة من أصل مئة معركة، ولكن قمة التفوق هي قهر مقاومة العدو من غير قتال مباشر.

وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ 

يحدث إذا تعلم القائد العسكري كيف يخدع عدوه، عندما يكون جيشه قادرًا على الهجوم، يجب أن يظهر عاجزًا عنه، وعندما يقترب من العدو يظهر أنه بعيد، وهكذا.

كما ركز الفيلسوف الصيني على أن الاستيلاء على بلد العدو سالمًا أفضل بكثير من تدميره، وأسر الجيش المُعادي أفضل من القضاء عليه!

- ثاني شيء مهم يجب على القائد إدراكه هو أن يحرص على الانتصار السريع، لماذا؟

لأن الحرب إن طالت فستفسد الأسلحة وتقل حماسة الجنود، هذا بالإضافة إلى أن إطالة الحرب تستنزف موارد الدولة، وإن نفدت موارد الدولة سيصبح الاعتماد على الضرائب من الشعب وبعد قليل سيتعب الشعب أيضًا، فلِمَ كل هذا؟ 

لذا يؤكد سون أتزو أهمية حساب تكلفة أي خطوة من الناحية المادية، ومن ناحية الوقت والمجهود.

هل تعرف أن هاتين النصيحتين أثبتتا أهميتيهما في عالم التكنولوجيا ونُفِّذَتا أمام أعيننا؟ أين هذا؟

شهدت فترة ما انتشار إنستجرام وبدأ الكلام عن أنه سيستبدل بفيسبوك تمامًا، هل عجز فيسبوك؟ لا.. إذًا ماذا فعل؟ هل دشن حملات وهاجم فيها إنستجرام مثلًا؟

لا أبدًا، قرّر أن ينهي الأمر بسرعة ويستفيد من شعبية الموقع واشترى إنستجرام! 😉

نرجع إلى الحرب ونقول إن كل الاستراتيجيات التي ذكرناها تتوقف على الحاكم، وتكلم سون أتزو في هذا الأمر باستفاضة..

 

صفات الحاكم البارع 

يحذّر سون أتزو وجودَ خمس صفات في الحاكم:

1- الطيش والتهور، لأن النصر يحتاج إلى عقل وصبر.

2- حدّة الطبع، لأنه هكذا سيُستثار بسهولة.

3- الحساسية المفرطة تجاه الشرف والسمعة.

4- الجبن وعدم الاستعداد للمخاطرة.

5-  القلق الزائد بشأن حياة الجنود.

إذًا ما الصفات المستحبة يا سون؟

توجد خمس صفات أساسية يجب أن يتمتع بها كل حاكم يريد أن ينتصر: 

1- أن يعرف متى يقاتل ومتى لا يفعل.

2- أن يعرف كيف يتعامل مع الرتب الأعلى والأدنى من قوات الجيش.

3- أن يضمن أن من يحرك جيشه من ضباط وجنود، روحٌ معنوية واحدة وهدف واحد. 

4- أن يكون قادرًا على ترقب الفرص وانتهازها. 

5- أن يأمر قائد جيشه ويتركه ينفذ هذه الأوامر بطريقته.

وكل هذه الصفات -السيئة والمستحبة- يمكننا أن نطبقها على أي شخص في موضع سلطة أو مسؤولية، كالأب والمُدرس والمُدير، فمثلًا لا يصح أن ينفعل المُدرس بسبب أتفه الأمور، بل يجب أن يكون قدوة لهم في العقل والحكمة، ويمنحهم الثقة الكافية عندما يُطلُب منهم مشروع ينفذونه بطريقتهم.

هكذا نكون قد عرفنا الإطار العام لقرار الحرب، والآن نتطرق إلى أمور أكثر جدية!

التخطيط 

الحرب لعبة فنية، محتاجة إلى مهارة وحرفية، يجب ألا يخوضها الحاكم إلا إن ضمن النصر! 

وكيف سينتصر؟ بأن يعرف نفسه ويعرف عدوه جيدًا!

يقول سون أتزو: "إذا كنت تعرف العدو وتعرف نفسك، فلا داعي إلى الخوف من نتيجة مئة معركة، وإذا كنت تعرف نفسك ولكنك لا تعرف العدو، فكل انتصار تحققه ستقابله هزيمة، وإذا كنت لا تعرف نفسك أو العدو، فسوف تفشل في كل معركة!".

لذا من المهم جدًّا أن يعرف الحاكم كل شيء خاص بقواته ونقاط ضعفهم وقوتهم، ويحاول أن يعزز من نقاط القوة ويقضي على نقاط الضعف.

وبالمناسبة.. هذا أيضًا يمكن أن ينطبق علينا، إذ إن معرفتنا بأنفسنا ووعينا الكامل بها وتقبلها يقلل من تأثير أية محاولات تقليل من الآخرين أو حتى تنمر! ض

أما معرفة العدو فتحقيقها يحتاج إلى معرفة برجال داخل دولة العدو نفسها!

من هؤلاء؟

سأخبرك يا صديقي لكن لا تُفشِ السر.. هؤلاء هم الجواسيس! 👀

والجواسيس خمسة أنواع: 

1- المحليون المواطنون، وهؤلاء مواطنون عاديون في البلد.

2- جواسيس الداخل، وهم ضباط متمردون داخل جيش العدو وولاؤهم للطرف الآخر، مثل أنجلينا جولي في فيلم Salt التي كانت تعمل في المخابرات الأمريكية، لكنها أصلًا جاسوسة لروسيا.. لا تخبر أحدًا! 👀

3- المنشقون، وهم جواسيس العدو نفسه لكن القائد استطاع أن يقنعهم بتغيير وجهة نظرهم.

4- المضللون، وهؤلاء يمررون معلومات خاطئة إلى العدو. 

5- الجواسيس الذين يجلبون أخبارًا من معسكر العدو.

وهؤلاء الجواسيس طبعًا يقدمون معلومات كثيرة جدًّا يجب التأكد منها، وبناءً عليها تتبلور الخطة في ذهن الحاكم.

وبجانب معلومات الجواسيس، توجد طرائق أخرى لمعرفة العدو، ويقدمها العدو نفسه بأخطائه ونقاط ضعفه في أثناء المعركة، والقائد الذكي هو الذي يلتقطها ويستغلها ضد العدو!

في حياتنا اليومية بالطبع لن ننصحك بتعيين جواسيس، فاليوم -الحمد لله- أصبح لدينا الإنترنت الذي يغلب أي جاسوس، ونستطيع أن نجمع به المعلومات عن الشركة المنافسة لنا، وهذه المعرفة هي التي ستؤهلنا لوضع خطة للتعامل معها.

حسنًا هكذا اتضح الهدف وجهزت الخطة، ماذا يتبقى لنا؟

التنفيذ.

بعدما يتلقى القائد العام الأوامر من الحاكم يستعد الجيش للتنفيذ، وهذه هي أصعب خطوة في العمليات الحربية، وتتمثل في فن المناورة، وتكمن صعوبتها في تحويل السلبيات إلى إيجابيات، وهذا يحدث بمعرفة القائد لخطط العدو قبل المعركة، ومعرفة المعالم الجغرافية، وكيف يمكن أن يستغلها لصالحه.

كيف؟

يوجد نوعان من المناورات، مناورات مباشرة ومناورات غير مباشرة، وكلاهما يهدف إلى تضليل العدو وإرباكه، ومزج النوعين ينتج عنه عدد لا نهائي من المناورات الممكنة.

 فمثلًا يمكن خداع العدو بالتظاهر بوجود فوضى، وساعتها سيتقدم العدو، ومن ثم ينقض هو عليه، ويمكن أن يشتته طوال الوقت ويخفي عنه مكان المعركة وما يجب أن يدافع عنه، مما سيجعل قوات العدو تنقسم، ومن ثم يحدث الهجوم على مكان غير متوقع تمامًا! 

وطبعًا التنوع في التكتيكات مطلوب، ليظل العدو متفاجئًا ولا يستطيع أن يتوقع من أين ستأتيه الضربة. 

وأهم تكتيك ينصح به سون أتزو هو الهجوم على نقاط الضعف والمراكز التي تقل دفاعاتها وترك نقاط القوة، يبدو هذا بدهيًّا، لكن لا يلاحظه الجميع في واقعنا.

ففي واحدة من الحروب المستمرة بين ماكدونالدز وبرجر كينج، قرر برجر كينج أن يهاجم ماكدونالدز في أقوى نقاطه وهي البطاطس المقلية، وعندما عرفت إدارة ماكدونالدز بهذا الهجوم أرسلت إلى كل فروعها إرشادات لضمان جودة البطاطس وصلت حتى إلى كمية الملح التي توضع عليها، وساعتها خسر برجر كينج الحرب، لأنه هاجم نقطة قوة لا ضعف! 

آخر جانب يجب أن يُدرس جيدًا لننتهي من أمر الحرب هو أرض المعركة نفسها.. 

ساحات المعركة 

يقول سون أتزو: "لو عرفت نفسك وعرفت عدوك يصبح النصر مؤكدًا، ولو عرفت الأرض والطقس يكون النصر شاملًا!".

وكما قلنا.. من المهم جدًّا معرفة أحوال الطقس والاستعداد لكل تقلباتها، والآن سنعرف حكاية الأرض..

في الحرب أنواع كثيرة من الأراضي:

- الأرض المُشَتِّتة، ويقال هذا المصطلح عندما يحارب الجيش على أرضه، ومن ثم يكون مُشَتّتًا لأن الجنود يكونون قريبين من بيوتهم وأهاليهم، وربما يتركون المعركة ويرجعون إلى بيوتهم.

- وإن كانت على أرض العدو، هل هذا أفضل؟ نعم، لكنها ليست على أرض سهلة، ويقال هذا المصطلح عندما يدخل الجيش مسافة صغيرة داخل أرض العدو، ومن ثم يمكن أن تهرب القوات الخلفية.

- الأرض التي تستحق مشقة الاستيلاء عليها، وتكون أرضًا صعبة فيها منفعة للجيش.

- الأرض المفتوحة، ويستطيع فيها الطرفان أن يتحركا بحرية كاملة، ويجب أن يهتم الجيش هنا بتقوية دفاعاته.

- تقاطعات الطرق، وهي الأرض التي تربط ثلاثة بلاد متجاورة، أرضنا وأرض العدو وأرض دولة ثالثة، وهنا نحتاج إلى تحالفات.

- ومن الأنواع التي يفضل تفاديها الأراضي الصعبة، التي تمثل الغابات والمستنقعات التي يصعب المرور بها، والأراضي المُحاطة بالمخاطر التي يصعب دخولها والخروج منها، وإن وقع الجيش في قبضة العدو فيها فلقد انتهى.

كل هذه العوامل يجب أن تُدرس جيدًا قبل بدء المعركة، وهذا أيضًا يمكن أن ينطبق على أي مجال في الحياة كالزواج، فعندما تتقدم لخطبة فتاة، اسأل جيدًا عن والدها ووالدتها واعرف ماذا يحبون وماذا يكرهون، حصَّن نفسك بكل المعلومات الممكنة عنهم وادخل أرض المعركة وأنت رافع رأسك ممسكًا بعلبة الجاتوه! 😀

وأخيرًا، لا تتخيل يا صديقي أن التفكير الاستراتيجي مهم في الحرب فقط، بل هو مهم في كل شيء في حياتنا، وما الحياة إلا معارك بعضها فوق بعض؟