الأكل عدو أم صديق

Book-Cover

مُقدِّمَة

تخيّل وأنتَ واقف في مكان ما تنتظر أحدًا، وجدت فجأة مجموعة أصحاب يطلبون من صديق لهم أن يدخل معهم المطعم، وهو يترجاهم: "دعوكم من المطاعم بالله عليكم؛ منظر الطعام يتعبني!"، وهم يردون: "أنتَ لم تأكل منذ يومين، ارحم نفسك وارحمنا!".

يستمر الحوار دون أية نتيجة وأنت واقف تنتظر نهاية هذا المشهد، لأن هذا الشخص بالتقريب  يَزِن نحو 49 كيلو جرامًا، ومع ذلك يقول لهم: "لقد ازداد وزني جدًّا، حرام عليكم! لنذهب إلى أي مكان آخر"!

بالطبع تستغرب وتنظر إلى حجم بطنك وتقول: "أنا منعدم الإحساس!"، وتشك أن هذه المجموعة تمثل سيناريو معيّنًا وأن الكاميرات ستظهر فجأة لتقول لك "أهلًا بك.. أنتَ معنا في برنامج الصدمة، أحببنا أن نرى رد فعلك!"، لذا يا صديقي أكمل معي الحلقة لنكتشف ما يعانيه صديقنا هذا،

الأنواع الثلاثة للاضطراب 

مبدئيًّا يجب أن تعرف أن اضطرابات الأكل ثلاثة أنواع، وكلّ نوع فيها له اسم وأعراض وطريقة علاج مختلفة..

1- أول الأنواع هذه يتمثل في صديقنا الذي تكلمنا عنه منذ قليل، شخص يعاني خوفًا رهيبًا من زيادة الوزن وعنده هوس غير مُبرر بالتحكم في الأكل، على الرغم من أنه يعاني النحافة الشديدة، ومع ذلك يرى نفسه سمينًا ويحرم نفسه حتى الاقتراب من الطعام!

والحقيقة يا صديقي أن هذا الشخص عنده اضطراب اسمه (Anorexia) فقدان الشهية العصبي.

 2- وفي المقابل يوجد نوع  ثانٍ من الأشخاص عكس الأول تمامًا، إذ يعاني الإفراط القهري في الأكل أو إدمان الأكل (Compulsive Overeating)، وهذا هو الشخص الذي إن لم يحل جيدًا في الامتحان، سيقول لك: "اطلب لنا سبع شطائر من الشاورما لننسى الأمر"، أو يشتري النوتيلّا كأنه من الأوائل، وعادة ما تكون عنده زيادة ملحوظة جدًّا في الوزن، ويستمر في اللجوء إلى الأكل بشكل مُفرط في الحالات النفسية المختلفة، في القلق أو الحزن أو الانبساط أو الملل، أيًّا كان. 

 3- وتجد نوعًا ثالثًا بينهما يعاني الشراهة العصبية (Bulimia) التي أعراضها عبارة عن: 

-  نوبات من النَّهَم والتِهام كميات كبيرة من الطعام في وقت قصير.

- فقدان تام للتحكم في الذات في أثناء النوبة.

- وبعدها يمارس سلوكيات قاسية جدًّا ليخسر كل السعرات عن طريق التقيؤ، أو الرياضة العنيفة مثلًا، أو اتباع نظام غذائي صارم. 

- وغالبًا ما يكون شائعًا عند أصحاب هذه الاضطراب سلوكياتُ إيذاء الجسد والتدخين وإدمان المخدرات.  

السمات الشخصيّة لأصحاب الاضطراب

هل توجد سمات مشتركة بين الناس الذين يعانون الاضطرابات التي ذكرناها؟ 

الحقيقة نعم، سأخبرك يا صديقي ببعض العلامات التي يمكن أن تلاحظها على الأشخاص المضطربين: 

1- هوس السيطرة على النفس، بالحِمية مثلًا أو بالاهتمام الزائد بمقاييس الجسم كأنه محور الحياة! 

2- الهرب من المشاعر إما بالأكل أو بعدمه، كأنه لا يريد أن يواجه خوفه أو فشله أو ماضيه إلا بالأكل، أو أنه يجد هويّته في الأكل!

3- هوس الكمال والرغبة في إتقان العمل والدراسة والرياضة بشكل إلزامي جدًّا، ما يوصلهم إلى حفرة الاكتئاب والإحباط لأنهم يعرضون أنفسهم للحرمان من الراحة واللذة. 

4- عادة يعانون اضطراب علاقاتهم بالآخرين، فيمكنك أن تلاحظ دائمًا المشكلات التي في حياتهم مع الناس، أو العزلة بسبب فرط الأكل أو عدمه، وبسبب العادات الغريبة التي يتبعونها وقت الأكل، فحتى إن اختلطوا بالناس ظاهريًّا، تجد بداخلهم مشكلة وعدم ارتياح. 

تأثير الأسرة 

حسنًا، هل هؤلاء يولدون بالاضطراب أم إن لهذا الاضطراب أسبابًا؟

الحقيقة أن هذا الاضطراب لا يظهر وحده، وعادة ما يكون سببه جذورًا نفسية عميقة تتعلق بالأسرة أو النشأة! 

- كأن يكون في الأسرة نفسها اضطرابات كالإدمان سواء إدمان المخدرات أو الغضب.

- أو تكون الأسرة مفككة وتعاني غيابًا وجدانيًّا لأحد الوالدين، وهذا ينقل إحساسًا إلى الطفل بأنه غير مرغوب فيه، أو أنه شخص سيئ.

- بالإضافة إلى الأسرة المضطربة التي تشيع فيها السيطرة المفرطة والكبت، والتدقيق في أقل أقل التفاصيل، فقد حكى الكاتب عن حالة الأم التي كانت تعد لابنتها عدد الخطوات التي تمشيها، وتحسب كل حركة بالملي حتى تعبيرات الوجه! 

- أو ربما تعاني الأسرة هوس النجاح والأداء العالي والتدقيق الأخلاقي واللفظي والمظهري والرياضي، وغير مسموح فيها بالـ9 من 10 بتاتًا في أي شيء! 

- ربما تقول: "الحمد الله أن أهلي لا يبالون على الإطلاق"، لا يا صديقي؛ العشوائية الفوضوية والعيش بلا مبالاة للأسرة يوصل أيضًا إلى نفس النتيجة.

والأسرة المضطربة توصل إلى الطفل شعورًا بأنه غير مقبول وممنوع من أن يعبّر عن مشاعره أو غضبه، وهذا ما يجعل الطفل يكبت مشاعره ويهرب إلى الأشياء التي يستلذ بها كالأكل مثلًا، وعندما يحاول أن يستقل، يلجأ إلى السيطرة على الشيء الوحيد الذي يملك بعض السيطرة عليه وهو جسمه، فتنشأ عادات هوسية توصل إلى الاضطرابات التي تكلمنا عنها منذ قليل.

لكن قبل أن تعاتب أمك وأباك على العشر كيلو جرامات الزائدة في وزنك، سأقول لك شيئًا مهمًّا.. 

أنت مسؤول عن رحلتك الشخصية للتعافي، وهذه الأساليب المضطربة داخل الأسرة مع الأسف تكون متوارثة عبر الأجيال، فربما عانى والدك ووالدتك نفس الصراعات داخل بيتيهما وهما صغيران، نحن الآن لا نلقي اللوم على أحد، لكن نرغب في تحسين جودة حياتنا لننهي هذه المأساة!

الإساءة الجنسية

في الحقيقة.. اضطرابات الأكل ليست مرتبطة بالأُسرة أو النشأة فقط، ولكنها مرتبطة أيضًا بالإساءات الجنسية! ستستغرب طبعًا وتسأل عن العلاقة.

لاحظ العلماء أن نصف النساء المصابات باضطرابات في الأكل لهن تاريخ مع التعرّض للإساءة الجنسية في الطفولة أو المراهقة، ومن ثم يتحوّل شعورهن إلى كراهية للجسد، لأن الخوف الطفولي أو ما حدث لهن في مرحلة المراهقة خُزن داخلهن وانعكس على تصرفاتهن، لذلك يعاقبن أنفسهن باعتبار أن أجسادهن هذه كانت سببًا في تعرضهن للإساءة، فتجد البنات أو حتى الشباب يريدون تشويه أجسادهم بأي طريقة، حتى لو بالبدانة المفرطة، ولسان حالهم يقول: "أنا لن أنقص وزني لأني أستحق هذا التشوّه"، أو "جسمي لا يستحق أن أهتم به"، بالإضافة إلى سلوكيات تدمير الذات وتجريح الجسد.

الأكل بشكل صحيّ

حسنًا، لقد تكلمنا عن الاضطرابات وأعراضها وأسبابها، لكن قبل أن نتكلم عن العلاج والتعافي، يجب أن نعرف الصورة الصحية للأكل التي ينبغي أن نصل إليها أو نتبعها كلنا وإن كنا لا نعاني أي اضطرابات. 

لأكون صريحًا معك يا صديقي، لا توجد طريقة واحدة مثالية للأكل، وإن قال لك أحد هذا فهو يخدعك، لكن توجد صورة أو نطاق طبيعي من الأكل بشكل معتدل، واختيار أنواع الأكل الصحية المناسبة لاحتياجك اليومي. 

أنا أعرف أن الأكل يحقق لنا لذة كبيرة، لكننا عندما نأكل طعامًا يحوي سعرات حرارية عالية جدًّا ودهونًا مرتفعة كالوجبات السريعة بشكل متكرر، تَفْسَد أصلًا مراكز اللذة عندنا، لأن ذلك يجعلنا نرفع معدّل الأكل لنحصل على لذة أكثر، ومع الوقت لن نجدها أصلًا! سنجد أننا مثلًا نجرب مطعمًا بعد مطعم ونحصل على قليل من هرمون السعادة من هنا وهناك، وفجأة نجد أننا لا نحقق هذه المتعة إلا بعد عشر شطائر، وفي المستقبل القريب لن تؤثر فينا هذه العَشرة ومن ثم تصبح العشرة 15 وهكذا.. شيء أشبه بالإدمان!
بالإضافة إلى ارتباط الأكل باللذة، من الطبيعي أن الأكل يرتبط ببعض الأشياء النفسية والاجتماعية، ولا مانع أن نستخدم الأكل باعتباره وسيلة للشعور بالسعادة أو الاسترخاء أحيانًا. 

إذًا لِمَ تحدث المشكلة؟

عندما يتحول الأكل إلى الوسيلة الوحيدة لتلبية الاحتياجات النفسية والاجتماعية التي يجب تلبيتها بطرائق أخرى، ويصبح الوسيلة الوحيدة التي تسعد بها نفسك أو تلجأ إليه تعويضًا عن مشاعر الألم بداخلك، وبدلًا من أن تكون لغة التعبير عن المشاعر هي لغة الحوار، أصبحت تعبر بلغة الأكل! 

وساعتها تكون محتاجًا إلى أن تتعلم كيف تتعامل مع مشاعرك وتعبر عنها وتلبي احتياجاتك النفسية والعاطفية بشكل صحيح ليرجع الأكل إلى نطاقه الطبيعي.

لذا سأقول لك بعض النصائح لتساعدك على الأكل بالشكل الصحيح..

- لا تأكل للتسلية أو وقت الترفيه والراحة أمام التلفزيون مثلًا أو لتضيع الوقت.

- والأهم لا تأكل لتُخرِج مشاعر غضبك أو وحدتك، وابحث عن طرائق أخرى تتخلص بها من الضغط، كأن تمارس رياضة أو تقرأ رواية لطيفة، أو تسمع شيئًا مفيدًا مثل ملخصات أخضر.. وهكذا.  

- لا تستخدم الأكل دائمًا للاحتفال. 

- ليس من الضروري التجمع على الأكل، يمكن الاجتماع للعب أو الحوار والمناقشات أو حتى التمشية!

- تجنب الأكلات السريعة قدر الإمكان. 

- تجنب الأكل بين الوجبات.

 

التعافي 

 كل ما فات سيساعدك على تكوين عادات غذائية سليمة بعيدة عن الإدمان، وأنت طبعًا يا صديقي تعرف أن الإدمان قاتل.

حتى إدمان الأكل يا أخضر؟ 

حتى إدمان الأكل يا صديقي.

وأصعب خطوة في طريق التعافي هي قرار التعافي نفسه وطلب المساعدة وكسر حلقة الإنكار!

وغالبًا يبدأ المريض بالتغير عندما يتعرض للخسارة الحقيقيّة، عندما يُفاجأ أنه سيخسر بطولة أو شخصًا أو صحته، ساعتها يواجه حقيقة مشاعره ويعترف بضعفه واضطرابه ومن ثم يطلب المساعدة، ونحن في النهاية بشر يا صديقي ويجب أن نعترف أننا محتاجون إلى الآخرين، فلا تتبع أسلوب "أنا بطل حياتي دون أي مساعدة"، على العكس، عندما تواجه نفسك بالحقيقة ستتعامل معها بشكل صحيح وتبحث عن شخص مناسب فاهم واعٍ يدعمك. 

حسنًا، من الشخص الذي يمكن أن أطلب منه المساعدة؟

سجّل عندك: 

- شخص متدرب عنده خبرة كافية كمعالج. 

- يوازن بين الاحترام والتفهم والحزم.

- مستمع جيد يحترم مشاعر غيره.

- يساعدك على أن تكوّن علاقات في المجتمع وتجد مساندته بعيدًا عن جلسات العلاج. 

- مدرك لاحتياجاته.  

- لا يستخدمك لتسديد احتياجاته. 

- تشعر معه بالأمان والراحة وعدم الخوف.

علاقات صحية 

كما قلنا سابقًا إن التعافي يبدأ بمواجهة الحقائق وطلب المساعدة من المتخصص، نقول أيضًا إنه يبدأ بالعلاقات الصحية الآمنة في المحيط، لأن العلاقة الإنسانية المستقرة مع النفس والآخرين تكسبنا ثقة وأمانًا وإحساسًا بالقبول والدعم، ومن منا لا يحتاج إلى دعم؟! 

ابتعد عن فكرة أنك مُسْتَغْنٍ عن أي احتياج، وأنك متحكم في كل الأمور، ولا تعاقب نفسك على الأحاسيس الطبيعية، لأننا من الداخل أطفال حقًّا، عندما تعترف بكلّ هذا ستجد أنك أصبحت أقرب إلى السواء النفسي.  

حسنًا، كيف أقيّم علاقاتي ومتى أقول عن علاقة إنها علاقة صحيّة؟ 

والله يا صديقي العلاقات الصحية هي العلاقات التي:

- تستطيع أن تتكلّم فيها من دون أن تشعر بالعار أو الخزي، وتظل مقبولًا عند الطرف الآخر. 

- تشعر فيها بالقبول مهما كانت حالتك ومهما فعلت!

- تطمئن فيها إلى أن ما تقوله لن تُعيّر به!

- لا تُستَغَلّ فيها!

- تحوي فكرة الخطأ والمسامحة.

 

مقوّمات روحية ونفسيّة

وآخر ما سنتكلم عنه يا صديقي هو أهميّة الجانبين الروحاني والنفسي في رحلة العلاج، فأنت تعرف أن لا شيء سيستقيم بداخلك إلا عندما يكمن الإيمان داخل روحك، وتكون نفسك سوية متزنة. 

الروح يا صديقي متصلة بالجسد، والحالة الروحية تؤثر في الشخص المريض، إذ إن مدى تعلقه بالله وحفاظه على الصلاة والدعاء والصحة، نعمةٌ كبيرة جدًّا من الله، ولو أدرك هذا لشعر أنه من الضروري أن يسيطر على تصرفاته الخطأ. 

أما العلاج النفسي فغالبًا ما يكون مهمًّا جدًّا، لأن علاج هذه الاضطرابات لا يكون فقط بتكوين عادات غذائية سليمة، ولكن بعلاج الاضطرابات النفسية التي أوصلت إليه، وهنا يأتي دور العلاج المعرفي السلوكي ويكون دور المعالج أن يساعد المريض على فهم حقيقة مشاعره وسلوكياته، ويكشف له معتقداته المغلوطة، ويعرّفه كيف يتعامل مع جروح الماضي، بالإضافة إلى أن بعض الحالات تحتاج إلى علاج دوائي وأحيانًا دخول المستشفى، خصوصًا حالات الأنوركسيا التي تصل إلى مرحلة شديدة من سوء التغذية.

 بالتدريج كل شيء يتحسّن يا صديقي، المهم أن تأخذ القرار وتبدأ رحلة التعافي، ستتعب قليلًا في أولها، ولكن في المقابل ستستمتع بالباقي من حياتك بصورة صحية.

وقبل أن تغلق الفيديو أريد أن أسألك سؤالًا تظل إجابته بيننا..

هل استمعت لي وأنت تأكل يا صديقي؟ لا تنسَ ما قلته لك سابقًا، لا تقرن الترفيه عن النفس بزيادة الأكل، لكن على العموم بالهناء والشفاء! 😀

سنلتزم بعد هذه الحلقة جدًّا.