المتلاعبون بالعقول

مقدمة
بعد نهاية يوم طويل مرهق، تفتح التلفاز لتسلي نفسك قليلًا قبل النوم أو في أثناء الأكل، وفي الوقت نفسه تعرف أخبار الدنيا، فتذهب إلى أشهر برنامج توك شو في البلد، أو تمسك الهاتف وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي قليلًا، تشاهد خبرًا هنا ومعلومة هناك، ومشكلة داخل البلد وكارثة خارجه، وحربًا اقتصادية وحربًا عسكرية، وفنانة عادت إلى فنان ورياضيًّا يتشاجر مع آخر، وشخصًا كسب البطولة، وآخر أقام حفلًا، وما فقرة الطبخ التي ختموا بها هذه؟!
بعدما تنتهي، تقف مع نفسك في لحظة استفهامية، ماذا يجري؟ لكنك تتثاءب وتتذكر أنك نعسان حاليًّا، فما علينا الصباح رباح.
لا.. تعالَ هنا ولا تقل ما علينا، الأربع ساعات هذه كافية لتغير طريقة نظرتك إلى الأحداث وحكمك عليها، ووقوعك في شِباك أساطير الإعلام الخمسة.
ما معنى الأساطير الخمسة؟ وما الذي تغيره فيك وسائل الإعلام؟ إن كنت تتابع برامج المشاهير للتسلية والترفيه، أو حتى تشاهد أفلامًا وثائقية عن الطبيعة أو سمكة التونة العنيدة على ناشيونال جيوجرافيك، أو أفلام ديزني أو أنميشن، فهذا كله يؤثر فيك بشكل أو بآخر، لكن كيف سنعرف؟
والآن هيا لنعرف كيف يلعب الإعلام بعقولنا..
أساطير التضليل الخمسة
ونبدأ بالسؤال الأهم، كيف تؤثر فينا وسائل الإعلام؟ ببساطة يا صديقي، من خلال خمس أساطير مشهورة كاذبة تُمَرَّر في المحتوى الترفيهي أو الإخباري أو المعرفي لتقنعك بأنها حقيقة، وهذه الأساطير هي:
1- الفردية أو الاختيار الشخصي
عمرو مثلًا يتعرّض لمحتًوى إعلامي يقول له طوال الوقت أنت حر وتستطيع أن تفعل ما تريد، ولأنك حر يجب أن تصبح اختياراتك فردية، أي تعيش في بيت وحدك ومعك سيارة لك خاصة بك، وتعمل في مشروعك الخاص، من دون قيود اجتماعية توجهك إلى ما يجب أن تفعل وما يجب ألا تفعل، تعرف لماذا؟ لأنك استثنائي ولست كالآخرين.
ومن ثم يغتر عمرو ويطمئن إلى أن عقله ناضج بما يكفي وأنه هو المتحكم الأول والأخير في حياته، وكلما تعرض عليه الشركات إعلاناتها عن المحتوى الذي يشاهده، يشتري ويشتري وهو يظن أنه هكذا يؤكد حريته، لكن إن شعر يومًا بالظلم أو برغبة في تغيير وضعه الاجتماعي أو اعترض على مشكلة ما، ساعتها سيشعر أنه صغير جدًّا مقارنة بهذه المشكلة، لأنه فرد وحده، كيف سيواجه المشكلة والجميع يقول له إن الحل في يده وحده؟
2- الحياد
يصدق عمرو أن وسائل الإعلام محايدة ولن تكذب عليه، وبالتأكيد أن كل ما يقولونه في مصلحتنا، فلِمَ سينحازون إلى طرف معين؟ لكن هربرت شيللر يقول لك يا صديقي إنه لا يوجد إعلام محايد، وإن كل وسائل الإعلام مشاريع تجارية، ومصلحتها مع مصالح المعلنين الممولين والشركات الكبيرة، تتبع مصلحتها أينما كانت، وإن اضطرت إلى قول الكلام وعكسه، لأن الهدف النهائي هو الربح.
ففي أيام غزو العراق مثلًا، رفض بعض المعلنين أن تتكلم البرامج التي ستعرض إعلاناتِهم عن الحرب، لأن هذا سيؤثر في مزاجك ويقلل اندماجك مع إعلانه، ويهدد المعلنون فعلًا بسحب إعلاناتهم، وهذا كفيل بخسارة هائلة للقناة، ومن ثم تخضع القناة للمعلنين.
3- ثبات الطبيعة الإنسانية
من كثرة ما يشاهد عمرو حروبًا وجرائم ومصائب وفقرًا ومجاعات وجرعات مكثفة من العنف، اقتنع بأن هذه الأشياء حتمية، ماذا سأفعل؟ هكذا هي الدنيا وهكذا ستظل، أشخاص سيئون آخرون جيدون، وهذه المشكلات الكبيرة ليس لها أسباب ولا أحد يستطيع حلها، لذا يجب أن أتصالح مع وجودها وأكمل حياتي بشكل طبيعي وأتخلى عن أمنيات التغيير.
4- غياب الصراع الاجتماعي
الآن نترك عَمْرًا؛ هذا يكفيه، جرب أنت أن تشاهد أي فيلم أمريكي، ستجده مليئًا بمشاهد العنف كأنه أصبح أساسيًّا في أي فيلم، وكما قال هربرت شيللر: "العنف شيء أمريكي مثله مثل فطيرة التفاح"، أي حتمًا ستجده في الفيلم، ومن الطبيعي أن يوجد أشخاص أخيار وآخرون أشرار، لكن الغريب أن هذا خيارهم الفردي، فالبطل طيب أو شرير لأنه اختار هذا، ليس لوجود جذور لظلم اجتماعي أو استغلال للشركات، هل تعرف أن بعض الشركات مثلًا كانت تحارب ظهور فيلم اسمه "المهاجر" لأنه يعرض استغلالها للعمالة المهاجرة، ونقلت كل إعلاناتها من القناة التي عرضت الفيلم؟ حسنًا نريد أفلامًا وبرامج ترفيه لا تتضمن مشكلات نهائيًّا سواء اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، هذه هي الراحة بحق!
5- رجع عمرو ليدافع عنك.. حسنًا يا أخضر، إن لم يعجبك شيء فشاهد غيره، لديك ألف قناة بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، بالتأكيد وسط هذه الكمية من القنوات ستجد ما ترغب في مشاهدته. نعم يا صديقي، مع الأسف هذه هي الأسطورة الخامسة، أسطورة التعددية، لكن ما يجب أن تعرفه هو أن العبرة ليست بعدد القنوات، ولكن باختلاف المضمون، الأمر بالضبط يشبه أن أحضر لك 50 علبة من البسكويت مختلفة في لون الغلاف فقط، وأنت تظن أنك هكذا تختار بحرية من خيارات متعددة، والحقيقة يا صديقي أنك محكوم في إطار مرسوم، كل شيء فيه يتكرر لأن مصالحهم واحدة.
وهذه هي الأساطير الخمسة التي قال هربرت عنها إن الإعلام يسيطر بها على وعي الناس.
تشكيل الوعي
حسنًا لم نختلف، لكن كيف تُمَرَّر هذه الأساطير؟
عن طريق تقنيتين مهمتين جدًّا هما التجزئة والفورية:
- جرب أن تشغّل أي برنامج أخبار لمدة نصف ساعة، وعدّ كم خبر مختلف يمر بك، ستجد خبرًا عن الرياضة وبعده عن السياسة ثم عن شخص تزوج وآخر مات، والمحصلة مجموعة أخبار لا علاقة لأحدها بالآخر، ولا تستطيع أن تعرف أسبابها، ولا يوجد أي نوع من الربط بينها، وفي النهاية ستشعر أن كل المشكلات بسيطة وسطحية، وأنت يا أخضر تحب أن تضخم المواضيع، هذا غير الفواصل الإعلانية التي تجعلك تقول "ماذا كنت أشاهد قبل الإعلان؟"، وهذه هي تقنية التجزئة.
- أما عن تقنية الفورية، فهي أن كل الأخبار والمعلومات تقدم متتابعة، دون فاصل بين الهذر والجد، أو بين القضايا المهمة المصيرية والترندات.
أريدك أن تسأل نفسك سؤالًا مهمًّا بعدما تنتهي من المشاهدة، "ماذا يجب أن أفعل الآن بعدما عرفت هذه المعلومات؟"، وأراهنك على اشتراك في التطبيق أنك ستكون تائهًا لا تعرف ما يجب أن تفعل أو ما المطلوب منك أصلًا، لكن أخضر يعرف وسيخبرك.
النتيجة النهائية: متفرج سلبي
المطلوب أن تسمع الأخبار المتجزئة الفورية وتصدق الخمس أساطير، لتحقق الهدف الأخير للإعلام الذي يصرف مليارات كل سنة حتى يراك متفرجًا سلبيًّا عظيمًا، لا تغير شيئًا ولا تعترض على شيء، إمعة إذا مشى الإعلام يمينًا تبعته وإذا مشى يسارًا فأنت وراءه!
الترفيه والتسلية
حسنًا شكرًا يا أخضر، أصبحتُ معقدًا من برامج الأخبار والتوك شو ولن أشاهد إلا برامج المسابقات والمشاهير لأسلي نفسي قليلًا، ها.. ماذا بها هي الأخرى؟
يا صديقي أنا أساعدك فقط ولا أقصد أن أنكد حياتك والله، لو اتجهنا إلى محتوى الترفيه والتسلية سواء كان مرئيًّا أم مسموعًا أم مقروءًا، سنجد أنك تتجه إليه هروبًا أو مللًا أو طلبًا للاسترخاء، لكنك هكذا تدخل فقاعة تعزلك عن الواقع المحيط بك ولو مؤقتًا، ينطبق عليها ما تكلمنا عنه في السلبية والأساطير الخمسة، لكنها تزيد عنهم في أن محتوى التسلية والترفيه يحفز عندك سلوكيات معينة ويجعلك تراها مهمة وتحاول فعلها، ومهما قيل إن الترفيه محايد وليس به أي أيديولوجيا أو توجه معين فهذا غير صحيح تمامًا.
عالم الطبيعة والخيال
حسنًا سأشاهد ناشونال جيوجرافيك أو أفلام ديزني، لن تقول لي أساطير خمسة وتجزئة وفورية.
هكذا أيضًا لم نبتعد عن التلاعب بعقلك ووعيك، فناشونال جيوجرافيك مثلًا تجعل العالم في ذهنك مكونًا من بعض الأماكن الجميلة، مرتفعات جبلية وسهول خضراء وأنهار، ومزارات سياحية وغابات، مناظر تجعلك تحلم وتقرر أنك عندما تتزوج ستوفر تكاليف العرس وتأخذ زوجتك وتسافران إلى جميع أنحاء العالم.
لكن هناك صورة غائبة عنك تمامًا وهي الصورة الحقيقية، إن هذه الأماكن الجميلة في بلاد ليس فيها مشكلات وصراعات سياسية واجتماعية، ولو كانت في دول إفريقيا فغالبًا شعبها يعاني مجاعات وفقرًا وحروبًا أهلية،كل هذا أنت لا تعرفه ولا يصل إليك مع أنه أهم من المناظر الطبيعية، لكنهم لا يريدونك أن تكون على وعي بهذا لأنه سيضايقك.
فعلى سبيل المثال، يقول هربرت إن صراعات ولايات الجنوب الأمريكي ومشكلات التمييز العنصري مع السود وجماعات الكوكلوكس كلان لم تُذكَر لمدة تقارب الـ50 سنة، هذا غير أن في أيام حرب فيتنام ومع بداية تدخل أمريكا، نشرت ناشيونال جيوجرافيك كثيرًا عن فيتنام، لكن عندما اعترض الناس على تدخل أمريكا وتوتر الرأي العام، توقفت ناشيونال جيوجرافيك تمامًا عن النشر عن أي شيء يخص فيتنام، وهذا يعني أن حتى الاختيارات ليست محايدة.
حسنًا وماذا عن أفلام ديزني يا أخضر؟! إنها عالم خيالي! القصة نفسها يا صديقي.. عالم خيالي ليس فيه صراعات اجتماعية حقيقية، الأشخاص فيه إما أشرار أو أخيار باختيارهم وليس لأسباب اجتماعية، هل تذكر أسطورة الاختيار الشخصي وغياب الصراع الاجتماعي؟ هي الفكرة نفسها.
الموضوع أيضًا ليس محايدًا، ففي أفلام ديزني تجد البطل دائمًا أمريكيًّا غنيًّا أبيض، ويذهب في رحلات للبحث عن كنز أو استكشاف البلاد الأخرى لغرض المغامرة، ويصل إلى هذه البلاد يجدها جزيرة نائية وأهلها متخلفون بدائيون، وهو البطل الأبيض المتفوق الذي يمثل أمريكا وهو الذي سيحن عليهم ويعلمهم الصواب والخطأ، ويسيطر عليهم ويستخدم مواردهم لصالحه، ولا يهم مصير هؤلاء الناس أو ما سيصيب البلد أو الجزيرة، لأنهم يستحقون ما يحدث لهم.
ولو انتبهت يا صديقي لوجدت أن وسائل الإعلام السينمائية الأمريكية قد غيرت هذه السياسة مع الوقت بتغيُّر التوجه العام، ففي وقت معين أصبح كل الأبطال سودًا، وإن كان الناس يعرفون أن البطل أبيض، لا هذا لا يعجبني.. أريد سوبرمان أسود، ومؤخرًا تجد عند الشخصيات الكارتونية ميولًا شاذة تقدم في سياق العادي والطبيعي، بالإضافة إلى محاولة تحبيب الناس في هذا عن طريق جعل شخصيات معينة محبوبة بين الناس، شاذة فجأة.
وتقول لي تسلية محايدة؟!
وفي النهاية كما قلت لك.. كل هذا نتيجته النهائية هي السلبية التامة والانعزال عن العالم الحقيقي والاستسلام لهذه الأفكار.
التوجيه الرقمي
أتخيل أنك قمت الآن لتحضر الريموت وتطفئ التلفاز لتريح دماغك، وأمسكت هاتفك لتتنقل من فيسبوك إلى تويتر ثم إنستجرام، تظن أنك هكذا هربت من أخضر، بالمناسبة.. هذا الكتاب قديم منذ السبعينيات تقريبًا، وفي هذه الأيام لم توجد مواقع التواصل الاجتماعي، لكن عيب عليك يا صديقي، هل تظنني سأتركك؟
المنصات الاجتماعية أيضًا مؤسسات وشركات كبيرة لها مصالحها العملاقة وأهدافها الخاصة، وتعتمد على الربح طبعًا، ولو نظرت حولك لوجدت أن كل الناس يشاركون المعلومات والأخبار بحرية تامة، لكن هذا غير حقيقي، فما يظهر لك يكون بناءً على بيانات وتفضيلاتك، بالإضافة إلى أن سياسات هذه المنصات لا تقبل بعض الموضوعات أو تقلل من انتشارها.
ومع الوقت وتعرضك المستمر لطوفان الترندات والمعلومات، يكون لهذا تأثير سلبي كبير في صحتك النفسية، لأن كل مصادر المعلومات تتنافس على جذب اهتمامك وتفاعلك بطرائق ومحتوًى يكون أحيانًا عنيفًا جدًّا أو مثيرًا أو جدليًّا أو تافهًا، وبالتدريج تفقد الثقة بمصادر المعلومات كلها، وتأتي لتشتكي أن كل الناس كاذبون يا أخضر، ووالله لم يعد في الدنيا خير!
وتدخل فقاعة من أخبار هواياتك وشخصياتك المفضلة، وتتابع فريقك الذي تشجعه وكل لاعبيه على فيسبوك وإنستجرام، وتتباع أخبار نجومك المفضلين وتغريداتهم، أي تصنع عالمًا خاصًّا بك تنعزل فيه عن المحيط الخارجي، وهذا أيضًا ليس صحيحًا، طبعًا باستثناء أن تتابع حسابات أخضر على مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل التطبيق؛ لئلا يحزن أخضر! :D
وختامًا
حسنًا يا أخضر قل لي.. ما الصحيح؟!
والله يا صديقي بعض الأمور ليس لها حل نهائي أكيد، يكفيك فقط أن تكون على وعي بتأثيرها فيك لتقللها أو تمنعها نهائيًّا، وعندما تكون المعركة على وعيك يجب أن يكون تركيزك على الأفكار، اسأل نفسك كيف دخلت هذه الأفكار دماغك، وما مصادرها، وما مصلحة هذه المصادر.
وهذا لتستطيع أن تكوّن خلفية عامة جيدة تساعدك على اتخاذ قرار بشأن ما ستتابعه وما ستتجاهله تمامًا، ونصيحة مني.. لا تسمع للمصادر الخطأ أو لبرامج التسلية والتفاهة وتظن أنها لن تؤثر فيك وأنك تعرف ماذا تفعل جيدًا، فكما عرّفتك اليوم، أغلب التأثيرات تحدث بشكل خفي وأنت لا تشعر بها أصلًا.
وأخيرًا يا صديقي، إن قال لك أحد سِرْ يمينًا أو يسارًا، لا تمشِ وراءه قبل أن تفكر جيدًا.