كتاب حضارة السمكة الحمراء

Book-Cover

المقدمة

ولد جيل الألفية الثانية في بيئة يسيطر الإنترنت على كل شيء فيها، وكبر بينما تعمل أصابعه على شاشات باللمس وتركيزه ينصب على الحياة الرقمية لا الواقعية، حتى أنه لم يعد قادرًا على الابتعاد عن الشاشة أو الحياة الرقمية بشكل عام.

ولو أردنا أن نقيس قدرته على الانتباه والتركيز مقارنةً بقدرة السمكة الحمراء، التي خلقت لتعيش في أسراب، ونتيجة لوجودها في إناء زجاجي تراجعت أعدادها، وزادت سرعة وفاتها، ودمرت حياتها الاجتماعية فمدة انتباهها لا تتعدى 8 ثواني، وبانتهائها يتشتت انتباهها وينتقل لشيء آخر؛ وتبدأ من نقطة الصفر.

في وقت تكون فيه قدرة أفراد هذا الجيل على التركيز بشكل حقيقي، ويكون منتبهًا فيها فعلًا؛ لا تتعدى 9 ثواني، بانتهائها ينفصل عن تركيزه.

وبدءًا من الثانية العاشرة يكون بحاجة لإشارة جديدة، أو تنبيه جديد؛ حتى لا يترك ما في يده ويذهب لشيء آخر. 

هذا الكتاب عن المنافسة الشرسة بين شركات التقنية العملاقة للاحتفاظ بالتركيز لأكبر مدة ممكنة، وبالانتباه المشتت من الذهاب لمكان آخر، حتى قبل أن يشعر الشخص بنقص المثيرات؛ وتمكنها من التحكم فيه بفضل بياناته التي لديها.

شركات التقنية العملاقة

هي شركات كبيرة (مثل: فيس بوك وآبل وتويتر وأمازون ومايكروسوفت)، لديها مليارات البيانات لمستخدميها، هذه البيانات ما من استفادة منها في شكلها الخام، إلا إنه نتيجة امتلاك الشركات لخوارزميات متطورة جدًا تغذي نفسها بنفسها من خلال زيادة عدد المستخدمين وزيادة كم البيانات، والتي أصبحت بفضلها قادرة على فهم سلوكيات الناس وتفضيلاته الشخصية وعاداته وردود فعله. بغرض تحقيق شيئين:

  1. توقع سلوكيات المستخدم بشكل أفضل وتصميم المنصات والخدمات التي يقع في شباكها ويظل متعلقًا بها.
  2. زيادة الوقت الذي يقضيه المستهلك على الشاشة؛ حتى تتمكن من بيع هذا الوقت بشكل أفضل للمعلنين أو لأطراف آخرى؛ في حالة من الممكن تسميتها (الإنسان العاري) الذي تتعرض فيه كل خصوصيته الفردية بمختلف أشكالها للاستغلال الاقتصادي، والتجسس، والملاحقة.

هذه الشركات بدون أن تقصد أوجدت نظامًا اقتصادي يلتقط كل شيء؛ فحتى يسيطروا على وقت الناس ويظهروا لهم الإعلانات المناسبة أصبحوا بحاجة للاستحواذ على كل ما يصدر عن الناس؛ لأن أي محتوى يخرج سَيُعالج وكأنه إعلان.

هذه الشركات أثرت علينا وعلى استعمال بياناتنا بشكل كبير، إلا أن لها أثرين يتعلقان بحالتنا النفسية.

الأثر الأول: الإدمان.

فإدمان استخدام التقنيات الرقمية ليس أثرًا غير مرغوب لاستخدام تطبيقات التواصل، لكن هو الأثر الحقيقي الذي تسعى الشركات العملاقة له من خلال طرق كثيرة مرتكزة على علم النفس السلوكي؛ منها: 

  1. تصميم واجهات استخدام الموقع أو التطبيق بطرق معينة بهدف تحويل الاستخدام العادي إلى إدمان. والذي تقاس نتائجه بمقياس الانتباه؛ عن طريق ثوابت من قبيل: عدد مرات اتصال الشخص بالموقع، ومدته، وعدد تفاعلاته على الشاشة.
  2. استخدام حالة التعلق الشرطي.

حيث تعطيك التقنيات الرقمية بدون أن تشعر مكافأة ما أو لذة تعتقد أنت أنها عشوائية أو غير مقصودة..

إعجاب على منشور مثلًا، نظرة على الحساب الشخصي لأحد، أو إشعار بلون جذاب، أو أخبار جديدة، هذه المكافأة وإن كانت قليلة ستضمن استمرارك في استخدام الموقع أو التطبيق.

  1. التركيز على شرائح عمرية صغيرة.

بسبب ضعف قدرة الطفل على القيام باختيار عقلاني نتيجة المواجهة بين المنطقة المسؤولة عن المنطق والحسابات المستقبلية بعيدة المدى والمنطقة المسؤولة عن البحث عن اللذة العاجلة؛ والتي تفوز نتيجة الإغراءات الكثيرة التي يتعرض لها الطفل.

وبالتالي يتخلى عن مقاومة المتعة العاجلة التي يولدها المثير الإلكتروني، مهما كانت صغيرة. خصوصًا وأن الإرضاء العاجل يولد الدوبامين الذي يرسل إشارة للدماغ؛ حتى تكرر الفعل. 

فيكبر جيل كامل حياته تسير على هذا النسق.

فلا تعتقد أن كل هذا يحصل بشكل عشوائي، لكنه نتيجة مجهودات جبارة لمعامل متخصصة في دراسة السلوك البشري وكيفية التحكم فيه وتوجيهه. 

وأننا أصبحنا تحت سطوة الهاتف، كما المدمن تحت سطوة المخدرات.

الأثر الثاني: الهشاشة العقلية.

وهذا لأن الهدف الحقيقي لعمالقة التقنية الرقمية جعل الناس معتمدين عليها، مستفيدين في هذا من هشاشتهم العقلية الناتجة عن إدمانهم للتقنيات الرقمية.

هذه الهشاشة بتظهر في أربعة أشكال:

الشكل الأول: متلازمة القلق.

وهي أكثرهم انتشارًا.

 ومعناها: الاحتياج الدائم إلى استعراض مختلف اللحظات مهما كانت تافهة، على الشاشات.

يحصل القلق المصاحب لهذه الحالة يتولد بسبب الخوف من شيئين:

  1. (عدم العثور على اللحظة المناسبة) / أو على (الصورة المناسبة) لنشرها.
  2. الخوف من أن الصورة أو اللحظة التي ستنشرها لن تحصد القبول الكافي، أو القبول الذي تنتظره.

وبالإمكان تلخيص النوع الأول من القلق في جملتين..

"أن وجودنا على وسائل التواصل أصبح حياة بالتفويض، أهم ما فيها الخوف من الابتعاد عن الشاشة بدون نظرة الآخرين لنا وتقديرهم.

الآخرين الذين هم عبارة عن أشباح التقينا بيهم بالصدفة خلال التنقل في العالم الإلكتروني".

أما الشكل الثاني من أشكال الهشاشة العقلية هو: تفكك الشخصية/ أو الفصام.

حيث أصبح الشخص يمتلك عدة هويات مختلفة على شبكات التواصل؛ فيظهر مثلًا في حساب بمظهر المتفوق في الدراسة وفي حساب آخر بمظهر الناجح في حياته الزوجية وينتهي الأمر بعدم قدرته على التمييز بين الهويات التي صنعها وشخصيته الفعلية. 

الشكل الثالث من أشكال الهشاشة العقلية هو: الخوف من التعرض للنسيان من قبل الأصدقاء على الشاشات.

فحتى تحصل على تفاعل كبير على وسائل التواصل أنت بحاجة لأن تكون موجودًا في ذهن الناس، وتستمر في عملية النشر. 

هذه الحالة من الإفراط في النشر تخلق اكتئابًا لبقية الناس .

فعندما تجد من يكثر من النشر ويتفاعل معه، بينما ما تنشره يهمل سيتولد لديك حالة من الخوف من الهجر. 

وهو ما سيجعلك تفتح حسابك بشكل مستمر على أمل أن تجد شيئًا يعطيك تقديرًا، مثل = (إعجاب) أو (مشاركة) يكذبوا يقينك أنك شخص من مستوى متدنٍ يستحق النسيان الذي أغرقه أصدقائه به.

الشكل الرابع من أشكال الهشاشة العقلية: الغضب المبطن.

الذي ينتج عن البحث بشكل مستمر عن آثار لحياة شخص أو أكثر على وسائل التواصل. لدرجة التحول لفريسة لهذه الحالة من البحث.

كيف نتحرر من حضارة السمكة الحمراء؟

نحن بحاجة لخوض أربع معارك، وتطبيق أربع وصفات.

المعركة الأولى: محاربة الأفكار المغلوطة، التي يغذيها عمالقة الإنترنت.

مثل فكرة وجود (آلية ضبط ذاتي)؛ بمثابة يد خفية تصحح الخلل الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي الناتج عن التطور الرقمي.

المعركة الثانية: التفاوض: حول الضوابط التي تحكم العالم الرقمي، أو حول المعايير التي يسير عليها الخوارزميات والتي تجذب من انتباه المستخدمين.

المعركة الثالثة: التفكير في إطار قانوني للمنصات: من خلال استبدال النموذج الذي يجعل مسؤولية مقدم الخدمة التحريرية منعدمة، بنموذج آخر يحدد مسؤولية ملائمة.

المعركة الرابعة: تطوير عروض رقمية لا تعتمد على اقتصاد الانتباه، للإفلات من سيطرة المصالح الخاصة، وسوق الإعلانات.

عروض لها طابع إنساني. منفتحة على أفكار وحقول ثقافية أخرى، فيها أدوات ضبط للوقت المصروف عليها، مع آلية تنبيه في حالة الإفراط في الاستهلاك، وجعل التنبيهات مقتصرة على الحد الأدنى الضروري.

أما بالنسبة للوصفات الأربعة؛ تعتمد على الهروب من المثيرات لاستعادة ذواتنا، والهروب هنا لا يعني الانقطاع تمامًا عن العالم الرقمي ورفض منتجاته؛ من أجل الوجود في الحياة الواقعية، لكن معناه ببساطة ممارسة الحرية من خلال السيطرة على الذات. التي تتطلب الاعتدال لا التقشف.

الوصفة الأولى: اللجوء إلى الملاذ.

حتى تكون حر في الوقت الحالي أنت بحاجة لبناء عوازل من حولك تمنع وصول مستجدات الأحداث والأمور الساذجة إليك. لحظات من الصمت والابتعاد عن وسائل التواصل، وخصوصًا داخل الأسرة؛ حتى لا تقطع إغراءات الشبكة علينا حياتنا معًا.

من الممكن عمل هذا الملاذ عن طريق:

* إنشاء مدارس ودور عبادة وأماكن للاجتماع بدون أجهزة تقنية.

وهو ما يفعله عمالقة التقنية الرقمية بإرسال أولادهم لمؤسسات تعليمية خالية من التقنية الرقمية.

* وبإمكاننا القيام به من خلال منع استخدام التقنيات الرقمية أثناء تناول الطعام مع الأسرة وأثناء لحظات المشاركة الاجتماعية.

الوصفة الثانية: الوقاية.

وخصوصًا للأطفال الذين يكبروا وأجهزة الاتصال في يدهم، والإشارات تؤثر على دماغهم، وللمراهقين = عن طريق التعود على أخذ استراحات من وسائل التواصل، والبقاء فترات بدون اجتماع رقمي.

وبإمكان الشركات القيام بهذا من خلال تشجيع المستخدمين على أخذ فترات الاستراحة وتعطيل حساباتهم لمدة يوم في الأسبوع، أو شهرين في السنة على سبيل المثال.

رسالة تخبرك مثلًا: (كنت نشطًا كثيرًا الفترة الماضية، ما رأيك لو تتوقف عن التفاعل لعدة أيام؟) الكثير لن يترددوا في الموافقة.

الوصفة الثالثة: الشرح.

بإمكان الشبكات الاجتماعية التي دخلت المدارس الخروج منها؛ لتستبدل بتعلم حسن استخدامها بهدف الحماية من آثارها الضارة، ومن آليات إدمانها، وتعلم وسائل الحرب عليها. بل بالإمكان تعلم استخدامها للصالح الشخصي وللنمو. 

الوصفة الرابعة: إبطاء السرعة، في مجتمع متسارع.

عن طريق مبادرات من قبيل القراءة الإلزامية نصف ساعة في اليوم، أو ممارسة تمارين رياضية، أو تخصيص وقت للتفكير.. وهكذا.

هذه الحلول كلها توصل فكرة واحدة؛ وهي أن بإمكاننا التعديل والتحسين من الشركات العملاقة وآثارها علينا، والتغيير من استقبالنا لمنتجاتها ومن التشتت الذي تصيب حياتنا به. بدلًا من التأرجح بين الغرق فيها وبين مقاطعتها التامة؛ الذي تذهب نتائجه غالبًا أدراج الرياح.

وبس كدا.

سلام.