كتاب علم النفس التطوري

Book-Cover

كتاب علم النفس التطوري (المؤلف: دافيد باس)

في قرية صغيرة في الصعيد وفي ليلة بينما الناس نيام سيغزو هذه القرية الصغيرة كائنات فضائية، وستتحكم هذه الكائنات بالناس هناك.

 كل كائن فضائي سيحتل جسمًا آدميًّا وسيستخدم جسمه- جسم الآدمي- كي يحقق مصالحه أي الكائن الفضائي.

لنلقِ نظرة على مصالح الكائن الفضائي:

  • أن يعيش لمدى الحياة.
  • يحافظ على وجوده بأن يحافظ على حياة الآدمي الذي يحتل جسمه.
  • ويسعى بكل الطرق أن ينشر نسله، بأن يدفع الآدمي كي يتزوج وينجب أطفالًا فينتقل لأطفاله ومن بعدهم لأطفال أطفاله وهكذا! 

الكائنات الفضائية تلك اسمها الجينات أو المادة الوراثية.

سأتحدث اليوم عن علم النفس التطوري.

علم النفس التطوري

علم النفس التطوري يتكون من جزءين أو هو بالضبط خليط بين علمين علم النفس والتطور البيولوجي – والتطور هنا كمصطلح أقرب لمعنى التكيّف.

يعدُّ مدرسة جديدة نسبيًّا في علم النفس، يرى أن سلوك الإنسان مهما تعقّد خلف اهتمامات ورغبات وغرائز كثيرة، كل التفاصيل المعقدة تلك خلفها هدف وغريزة واحدة، تعدُّ المحرك لكل التصرفات التي يقوم بها وهذه الغريزة هي التكاثر! 

والهدف أن يحاول تمرير مادته الوراثية وبقائها بأفضل صورة ممكنة.

الأنثى والكيف

لنرجع قليلًا لقريتنا التي بدأنا بها الحكاية، كان هناك بنت اسمها "فتحية"، هي واحدة من المصابين وتريد أن تمرر مادتها الوراثية، لذلك هي تحتاج إلى شريك أو زوج. لو أنجبت "فتحية" طفلًا فسيكون مكلفًا جدًّا بالنسبة لها على عكس زوجها الذي لن يخسر شيئًا تقريبًا، هي استثمارها أكبر بكثير من زوجها، فهي تدفع شهورًا في الحمل وسنين في الرضاعة والتربية، لذا لو قامت باختيار زوج سيئ أو غير مناسب ستكون خسارتها أكبر وفرص بقاء الطفل نفسه الذي يحمل مادتها الوراثية ستكون أقل.

انتقائية الأنثى

لأجل كل ذلك "فتحية" انتقائية جدًّا وستختار بعناية، أولًا يجب أن يملك زوجها موارد كي يكبر ابنها في بيئة توفر له أفضل ما يمكن.

ولكن كيف ستكتشف ذلك، بالطبع لن تسأله ما هو مبلغ المال الذي تمتلكه في حسابك البنكي، ولكن يمكن أن تستشف ذلك من خلال ملاحظتها سيارته الحديثة، هاتفه النقال الغالي، وغيره.

لكن أيضًا، ماذا لو كان هذا العريس يمتلك الموارد، ولكن ليس لديه استعداد بأن يشاركها موارده تلك أو يشاركها مع أي شخص آخر!

 إذا يجب ألا يكون بخيلًا، صفة كالبخل هي خط أحمر!

وبفرض أن الشريك عنده موارد وعنده استعداد للمشاركة، ولكن بعد فترة قصيرة سيشعر بالملل فيتركها، لذلك يجب أن تتأكد "فتحية" بأن الشريك مستعد ويريد علاقة طويلة الأمد.

كيف يمكنها التأكد؟ 

تصعّب طريق الوصول إليها وتراقب هل سيحارب لأجل الوصول إليها؟

تسأله أسئلة تبدو ساذجة مثل ما هو لونها المفضل؟ ما الشيء المميز في اليوم الفلاني؟ تفاصيل صغيرة غير مهمة ولكنها مؤشرات عن اهتمامه.

الذكر والكم

انتهينا من الجانب الخاص بـ"فتحية"، لنراقب "فتحي" الآن!

هو أيضًا يريد تمرير مادته الوراثية.. أنا بدأت بالأنثى لأن لها الحكم النهائي في تحديد الاختيار، وتفضيلاتها هي التي تؤثر في سلوك الذكر التزاوجي، أي لو رأت النساء بأن صلاحية الرجال كأزواج وشركاء حياة تقوم على أساس قدرتهن على كسب الموارد فستتحدد سلوكيات الرجال وتتمحور حول الموارد والمنافسة عليها.

محرك الذكر

"فتحي" لكي يزود فرص نجاح ذريته ويحصل على شريكة مناسبة مثالية سيحاول بأن يرفع مكانته ويهتم بتفوقه الشخصي.

وطبعًا الموضوع أحيانًا يكون بغاية الوضوح، وأحيانا أخرى يبدو معقدًا ومستترًا.

أي إن "فتحية" يمكن ألا تقيّم الرجل تبعًا للموارد ولا المكانة ولا تكترث لأمرهم الآن، ولكن ستكون مهتمة جدًّا بمستقبل العلاقة، "فتحي" بعد خمس سنوات كيف ستكون موارده؟ هي ستكون مهتمة جدًّا بالصفات التي ستؤدي للموارد هل يملك طموحًا وما مقدار ذكائه؟! ستكون انتقائية جدًّا في هذه التفصيلة.

تفضيلات الجنسين

المهم "فتحي" سيتزوج "فتحية" وبعد بضع سنين، سيبدأ المال يجري في يديه وأموره المادية تتحسن وهنا "فتحي" سيبدأ بالعبث خارج علاقته الزوجية، وسيبدأ بإقامة علاقات مع نساء غير زوجته– الرجل عندما تزيد معه الموارد سيوجهها لمزيد من الاقتران– فلو تزوج اثنتين أو ثلاث سيستطيع زيادة مردوده الإنجابي، بعكس المرأة التي إن حصلت على أكثر من شريك في الوقت نفسه فلن يكون هناك أي زيادة في المردود الإنجابي، بكل الأحوال لن تستطيع الإنجاب أكثر مرة واحدة كل ٩ شهور.

لذلك الرجل يرغب في الكثير من الشركاء لنشر مادته الوراثية، أما المرأة فتريد شريكًا واحدًا، ولكن المهم أن يكون مناسبًا وتحاول أن تحتكره لنفسها.

سيكولوجية الغيرة

طبعًا "فتحية" كأي سيدة أحست بأن زوجها يخونها، ولكن لا يوجد أي دليل في يدها، ستثور جدًّا في وجهه، وتتهمه بصورة صريحة.

"فتحية" ممكن أن تثور بمجرد شكها في خيانة "فتحي" لها بصورة جسدية ولكن ستكون ثورتها أكبر بكثير لو أنها شكت في خيانته العاطفية – خيانته العاطفية معناها بأن التزامه معها على المدى الطويل معرض للخطر لأنه سيقسم الموارد الخاصة به بينها وبين الشريكة الجديدة!

الغيرة بين الزوجين

ولكن "فتحي" على العكس ممكن أن يضرب "فتحية" لو شك بأنها تخونه عاطفيًّا، ولكنه سيقتلها لو شك بأنها تخونه جسديًّا – خيانتها الجسدية معناها بأن يقين الأبوة الخاص به معرض للخطر ومعناها بأنه سيوجه موارده في تربية طفل ليس ابنه.

سيكولوجية الغيرة مختلفة بين الطرفين، الرجل مثلًا سيميل أكثر بأن يستخدم العنف جسديًّا، وعندما يريد التقليل من قيمة غريمه سيتهمه بأنه لا يملك موارد ولا يملك طموحًا، أما المرأة عندما تريد التقليل من قيمة غريمتها فستقول بأن شكلها بشع أو تتهمها بالإباحية.

أي إن كل طرف سيحاول إلغاء أو التقليل من الحوافز الإيجابية التي يكون الطرف الآخر مهتمًّا بها في شريكه.

الأولاد

بعد كل ما حدث ذهبت "فتحية" غاضبة لبيت أهلها، و"فتحي" تلقن درسًا جيدًا بعد يومين من غيابها، وسيعود إليها طالبًا السماح، وخصوصًا بعد أن علم بأن زوجته حامل، أخيرًا ولي العهد سيأتي منذ زمن و"فتحي" يرغب في إنجاب طفل!

 ولكن لماذا طفل وليس طفلة؟

الذكر فرصة أن ينشر جيناته أكبر من الأنثى وذلك بأن يزيد عدد الشركاء خاصته، ولكن الأنثى مردودها الإنجابي ثابت؛ فالولد بالنسبة للأهل سيزود فرص أن جيناتهم ستمرر لعدد أكبر!

المهم سيولد الطفل ويسمونه "فهمي" على اسم جده – الأب والأم كانا يحبان فهمي جدًّا! هو يحمل ٥٠ بالمئة من المادة الوراثية لكل واحد منهما، لذلك يهتم الأبوان بتربيته ويصرفان عليه ويحميانه من أي خطر، طبعًا كل هذا لأجل مصلحتهما الشخصية وهي الضمان لاستمرار بقاء مادتيهما الوراثية. 

الاستثمار الوالدي

سينشأ "فهمي" الولد الصغير فى بيت العائلة، يعيش معهم الجد والجدة والأعمام والأخوال جميعًا في البيت نفسه، فسيكبر "فهمي" ويتعامل مع أقربائه بصورة يومية، الطريقة التي سيعامله بها كل شخص منهم تعتمد على ثلاثة عوامل:

أولًا: درجة القرابة

هناك علاقة طردية بين مقدار المادة الوراثية التي يتشاركها الأشخاص مع بعضهم بعضًا والخدمات التي يمكن أن يقدموها لبعضهم بدون مقابل.

المادة الوراثية المشتركة بين "فهمي" وأبيه هي ٥٠ بالمئة؛ فأبوه مثلًا سيوفر له رعاية بدون مقابل، استثمار أبَوِي بصورة أكبر من عمه مثلًا الذي يشاركه ١٢.٥ بالمئة من مادته الوراثية فقط!

وكلّما قلّت درجة القرابة قلّت معها نسبة المادة الوراثية المشتركة؛ فبالتالي سيقل الاهتمام، وبالطبع كلما زادت نسبة المادة الوراثية زاد معها مستوى الرعاية والاهتمام!

النقطة الثانية

هي فرضية عدم التأكد من الأبوّة

ستوفر "فتحية" الأم لابنها رعاية وتستثمر فيه أكثر من "فتحي" الأب – هي متأكدة مئة في المئة بأن "فهمي" هو ابنها ويحمل مادتها الوراثية على عكس الأب!

وكذلك أيضًا العم والخال كلاهما يتشارك مع "فهمي" النسبة نفسها من المادة الوراثية، ولكن الخال سيوفر للولد استثمارًا أبويًّا أكبر لأنه غير واقع تحت تأثير عدم التأكد من الأبوة كما هو حال العم.

الاستخدام البديل الممكن للموارد

الجدة مثلًا أم الأم لن تتمكن من استخدام مواردها وترجمتها لنشر مادتها الوراثية لعدم قدرتها على نشر جيناتها في جيل جديد، لذلك ستوجه وتركز مواردها كلها للطفل "فهمي" وتوفر له استثمارًا أبويًّا كبيرًا.

الغيرية المتبادلة

وتمر السنين و"فهمي" يكبر، وفي يوم أثناء جلوسه ليصطاد السمك، يصل إليه خبر بأن صديقه الذي يسكن بجواره تعرض بيته لحريق! "فهمي" سيهب لمساعدته والوقوف إلى جانبه إلى أن تتحسن ظروفه من جديد.

ما تفسير ذلك؟

 طوال الوقت وأنا أحدثكم عن أنانية التصرفات وأن كل واحد يهمه مصلحته ومادته الوراثية فقط – هل يمكن أن يكون للغيرية التفسير نفسه؟

أجل! ما الشيء الذي سيدفع بـ"فهمي" بأن يساعد الجيران والأصحاب، ويتعاون معهم ويقدم لهم خدمات بدون مقابل لن يقدمها لشخص غريب مثلًا؟ 

لأن فهمي سيأخذ مقابلًا في المستقبل بصورة غير مباشرة، عندما يساعد صاحبه في المستقبل إن احتاج هذا الصديق في أمر ما فبكل تأكيد سيرد له الدين ويساعده. 

الملخص

 لو أن "فهمي" يساعد الناس الغريبة ولا يريد منهم أي مقابل، أو أنه يحمي الضعيف، الذي لن يقدم له أي مساعدة بسبب ضعفه، باختصار هو يقوم بأعمال بطولية! هل معنى ذلك أيضًا مجرد أسلوب منه لتمرير مادته الوراثية؟

نعم! لأنه عندما يقوم بذلك سيكتسب سمعة في مجتمعه، وسمعته الجيدة سترفع مكانته وبالتالي ستزيد فرصته بالحصول على شريك مناسب، وهكذا سنعود لندخل في الدائرة نفسها!